الإقتصادي

شبح افلاس دويتشه بنك..مقال تحليلي بقلم د. محمد الصياد

هل هي النسخة الثانية من ليمان براذرز؟

شبح افلاس دويتشه بنك

 

د. محمد الصياد*

أطلت علينا مؤخراً (قبل أن تتوارى)، أنباء عن وجود مصرف دويتشه بنك(Deutche Bank) الألماني، في حالة هي أقرب الى الموت السريري، إذا ما أخذنا على محمل الجد مضمون تلك الأنباء التي نقلتها وكالات الأنباء عن الأوساط المالية الألمانية والأوروبية، ومفادها أن البنك يسعى للحصول على تصنيف حكومي بالإفلاس (من أجل حمايته من استحقاقات المطلوبات).

لكن هذه الأنباء سرعان ما توارت عن أنظار وأسماع المتابعين والمعنيين (اشتغالاً) بمثل هذه الأحداث المالية العالمية ذات الوزن الثقيل في تحديد مسارات حركة رأس المال، واتجاهات الدورة الاقتصادية العالمية، وطبيعة النمو الذي يمكن أن يترتب عليها. فما الذي حدث بالضبط؟ وما هي القراءة المستنبطة منه؟

بدأت القصة، على ما يبدو مع خبر نقلته مدونة زيرو هيدج (Zero Hedge)، وهي مدونة مختصة بمتابعة الأسواق المالية وتحليل اتجاهاتها ووحداتها العاملة، من بنوك استثمار وصناديق تحوط(Hedge funds)؛ وتصيد الأخبار وما يدور في كواليس الصناعة المالية العالمية، ونشر غسيلها – ومفاده أن دويتشه بنك على وشك الانهيار. وقد حرص الموقع على أن يجيء عنوان ومتن الخبر، موحياً وضاجّاً في إثارته.. لحظات موت دويتشه بنك(The Deutsche Bank Death Watch).. أكبر بنك في أوروبا في طريقه الى الانهيار.. وهناك شائعات متوالية بأن الانهيار النهائي يمكن أن يحدث عاجلاً وليس آجلاً، ومن شأن سقوطه أن يجر معه النظام المالي بأكمله.

 

فكان أن سارع (أو بالأحرى تسرَّع) فريق الإعلام الاجتماعي في دويتشه بنك، للرد على هذا البلاغ الكاذب، بنفيه جملةً وتفصيلاً، ما تسبب في تفاعل واسع مع هذا النفي على منصة تويتر باعتباره نفياً قد يفيد التأكيد.

 

وقد يكون من المفيد الإشارة الى أن موقع زيرو هيدج، يُعد اليوم من المواقع العالمية الشهيرة في عالم المال والأعمال، بغض النظر عما يشاع حول مؤسسه البلغاري دانييل إيفانديسكي (Daniel Ivandjiski) من أقاويل تتعلق بشخصيته وبأهوائه الأيديولوجية. فلقد تخرج ايفانديسكي من الكلية الأمريكية في صوفيا عام 1997، قبل أن ينتقل الى الولايات المتحدة ليدرس هناك البيولوجيا الجزئية في جامعة بنسلفانيا، ثم يتحول فيما بعد للعمل في المجال المصرفي والمالي. وفي عام 2009، أسس موقعه “زيرو هيدج” الذي لازال هو نفسه ناشره الرئيس ورئيس تحريره. حظي الموقع على الفور بشعبية طاغية، حيث بلغ عدد الزيارات لجلسات المستخدم الشهرية، أكثر من مليون في عامه الأول، ليرتفع بحلول عام 2018  الى أكثر من 40 مليون جلسة مستخدم شهرية. وهو يحتل المرتبة 507 بين أكبر مواقع الويب في الولايات المتحدة[[1]].

 

وفي خلفيته الفكرية الاقتصادية (الأيديولوجية، إن شئتم)، فإن الموقع ينتمي الى المدرسة الاقتصادية النمساوية (مدرسة فكرية اقتصادية اعتُبرت حينها بدعة، من حيث تغايرها التام مع كل السائد في الفكر الاقتصادي العالمي. فهي تعتمد على المنهجية الفردية، فتفسر الظواهر الاجتماعية باعتبارها نتاجاً حصرياً لدوافع وأفعال الأفراد. وقد أنشأها النمساوي كارل مينجر (Carl Menger)، ويوجين بوم فون باويرك (Eugen Bohm von Bawerk)، وفريدريش فون ويسر (Friedrich von Wieser)، وآخرون في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في فيينا. لكن يبقى كارل مينجر أباً روحياً لهذه النظرية. ومن مساهمات هؤلاء الاقتصاديين النمساويين في الفكر الاقتصادي العالمي، كتاباتهم التي غطت قضايا جوهرية، منها على سبيل المثال: رأس المال والفائدة؛ الفعل الانساني؛ الفردية والنظام الاقتصادي؛ الفرد، الاقتصاد، والدولة؛ مبادئ الاقتصاد؛ دورة الأعمال النمساوية؛ التدمير الخلاق؛ مشكلة الحساب الاقتصادي؛ رأي في التضخم؛ الهامشية (Marginalism)؛ الفردية المنهجية؛ نظرية القيمة الذاتية
(Subjective theory of value)؛ ترتيب عفوي (Spontaneous order)، وغيرها. وكلها، كما ترون تدور حول نظريات الاقتصاد السلوكي المعاصر التي فاز أحد منظِّريها وهو خبير الاقتصاد الأمريكي ريتشارد ثالر (Richard Thaler) – أحد الآباء المؤسسين للاقتصاد السلوكي – بجائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2017.

 

على أن مفهوم الاستثمار العبثي أو السيء (Malinvestment)، ربما كان أقرب الى العقيدة الاقتصادية للجماعة القائمة على إدارة تحرير موقع زيرو هيدج. فبموجب هذا المفهوم، المستنبط من تحليل دورة الأعمال في الاقتصاد النمساوي، هنالك تخصيص سيء وغير فعال للاستثمارات نتيجة لانخفاض مصطنع في كلفة الاقراض، وإرتفاع غير مستدام في العرض النقدي. (كثيرا ما تلام البنوك المركزية بتسببها في ظاهرة التخصيص السيء وغير الفعال للاستثمار، وهو ما وجد تجسيده، على سبيل المثال لا الحصر، في أزمة شركات الدوت كوم (شركات التكنولوجيا الكبرى)، وأزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة الأمريكية التي دشنت الأزمة المالية العالمية في عام 2008، (الأولى في سنة 2000، والثانية في سنة 2007). مع ملاحظة أن هذه النظرية الاقتصادية النمساوية، لازالت تحظى بأتباع كثر في الأوساط الأكاديمية في الغرب، رغم نكرانها ورفضها للاتجاهات الامبريقية (النمذجة الرياضية) والتحليلات المبنية على الاقتصاد القياسي والاقتصاد الكلي، حيث أخرجها التيار الاقتصادي النيوليرالي المسيطر في الغرب، من ملة الاقتصاد السياسي الرأسمالي، على الرغم من أن أحد المحسوبين عليها، وهو فريدريش أوغست فون حايك (Friedrich August von Hayek)، فاز في عام 1974، بالمشاركة مع غونار مردال (Gunnar Myrdal)، الاقتصادي وعالم الاجتماع السويدي، بجائزة نوبل التذكارية في الاقتصاد، نظير تحليلهما العميق للتداخل والاعتماد المتبادل بين الظواهر الاقتصادية والاجتماعية والمؤسسية.

الآن، أين الحقيقة من مثل هذه الأخبار الطيارة ؟

بادئ ذي بدء، يتعين التنويه بأن كافة وحدات الاقتصاد العالمي تعاني اليوم من أزمة تدفقات مالي ( (Cash flowوليس بخافٍ على أي متابع للعلاقات الاقتصادية الدولية، أن الاقتصاد العالمي يجتاز، منذ العام الماضي، مرحلة من الشد والجذب، بين حالة التباطؤ  المرشحة للتحول الى حالة من الركود، والذي، بدوره، سيكون إما عاصفاً (في حال فشل تكتيك الرئيس الامريكي دونالد ترامب في عقد صفقة رابح-رابح (Win-Win deal) قبل بضعة أشهر من انتخابات الرئاسة الأمريكية لتكون بمثابة “ضربة معلم” انتخابية راجحة)، وإما هبوط آمن (Soft landing)، بدفع من محركات الاقتصاد العالمي الأخرى التي لازالت دينامياتها الداخلية تحتفظ ببعض مخزون توليد الطلب المحلي لتثوير الدورة الاقتصادية.

لذلك لم يأتِ التقرير الفصلي الذي أصدرته شركة مكنزي (McKinsey & Co) في شهر أغسطس 2019 بجديد والذي قارنت فيه بين الأوضاع المالية التي تمر بها الشركات الآسيوية (نتيجة لثقل مديونياتها) وتلك التي سبقت اندلاع الأزمة المالية الآسيوية صيف 1997؛ والذي أضاء عليه جزئيا سوبهيب سركار على موقع وكالة أنباء بلومبيرغ.

تقرير أغسطس لشركة مكنزي كان مخصصا للأوضاع المالية للشركات الآسيوية. أما التقرير الفصلي الذي تلاه، والذي أصدرته الشركة في شهر أكتوبر 2019، فقد خُصِّصَ للمراجعة السنوية لأوضاع وحدات القطاع المصرفي العالمي. وجاء فيه بأن القطاع يمر بأوقات عصيبة، وإن التهديد بالاختفاء من السوق في غضون الشهور المقبلة، يطال واحدا من كل ثلاثة بنوك؛ وإن أكثر من نصف البنوك في العالم، هي أضعف من أن تتمكن من تجاوز التباطؤ الاقتصادي المحتمل؛ وإن غالبية البنوك على مستوى العالم قد لا تكون قادرة على البقاء اقتصاديا، لأن عوائدها على الأسهم لا تواكب التكاليف (انظر: Hannah Levitt, Banks Must Act Now or Risk Becoming a ‘Footnote’, Bloomberg, 22 October 2019, https://www.bloomberg.com/news/articles/2019-10-21/banks-must-act-now-or-risk-becoming-a-footnote-mckinsey-says).

 

التشكيك في مصدر الخبر

من متابعة سريعة للتعليقات على خبر قرب افلاس دويتشه بنك، سنجد أن الذين شككوا في مقاصد ما وراء الخبر، نسبوا الموقع الى  جهات موالية للأنظمة القومية الشعبوية في أوروبا، بل والى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؛ فيما اختار فريق آخر نسبة الاشاعة الى المعسكر الأمريكي الذي يمارس أنواعا مختلفة من الضغط على ألمانيا للتخلي عن سياساتها النقدية المتشددة، وذلك برسم الكم المتزايد من المقالات التي تسطرها أوساط اعلامية واقتصادية اعلامية أمريكية (وبطبيعة الحال نظيرتها البريطانية أيضا) ضد ألمانيا.

لكن هنالك مصدر آخر للخبر، وهو موقع فور تشان (4Chan)، الذي ذهب في نفس الاتجاه الذي ذهب اليه موقع زيرو هيدج، من توقعه بقرب تقديم البنك الألماني للسلطات الألمانية أوراق طلب اعلان افلاسه. موقع 4Chan، هو موقع تصويري مجهول، ناطق باللغة الإنجليزية، تم إطلاقه من قبل كريستوفر بول (Christopher Poole) في 1 أكتوبر 2003 ، ليكون في الأصل كنظير انجليزي لقناة فوتابا اليابانية (Futaba Channel)، والتي تحمل أيضا اسم 2Chan. ويتناول الموقع مواضيع مختلفة، من الرسوم المتحركة والموسيقى وألعاب الفيديو واللياقة البدنية، الى السياسة. وهو يستقبل أكثر من 27 مليون زائراً متميزاً شهرياً، مع تلقيه ما يقرب من 800,000 مساهمة بريدية الكترونية يوميا.  (راجع: Ethan Hunt, 4Chan Prophecy: Deutsche Bank has Reportedly Filed bankruptcy, 7Bitcoins, 5 November, 2019)

حقيقة الوضع المالي للبنك

معلومٌ أن دويتشه بنك، الذي يبلغ عمره اليوم نحو 150 سنة (تأسس في مارس عام 1870)، هو أكبر بنك في ألمانيا، وأكبر بنك استثماري في أوروبا، ويمتد نشاطه ليغطي 58 دولة، ويعمل فيه (حتى الربع الثالث من عام 2019)، 958,89 موظفا؛ وهو بذلك من بين أكبر 17 بنكا في العالم، بإجمالي أصول تبلغ قيمتها حوالي 1.3 تريليون دولار.

لكن البنك يجتاز اليوم، بدون شك، فترة حرجة. وإذا ما قُدِّر لمنطقة اليورو أن ينفرط عقدها فإن مصيره سيكون غير بعيد عن مصير البنوك الأمريكية الكبرى التي كادت الأزمة المالية أن تطيح بها لولا عملية الانقاذ المالي التاريخية الضخمة التي رتبتها لها الحكومة الأمريكية.

يعاني دويتشه بنك من مشاكسات وزارة الخزانة الأمريكية التي تلاحق أنشطته التمويلية والاستثمارية (لأسباب عدة بطبيعة  الحال). في أواخر عام 2015، على سبيل المثال، أجبرت وزارة الخزانة الأمريكية البنك الألماني على دفع غرامة مقدارها 258 مليون دولار للخزينة الأمريكية، على خلفية اتهام البنك بتمويل عمليات اقتصادية وتجارية في بلدان مشمولة بسيف العقوبات الأمريكية، مثل سوريا وإيران (راجع: Suzanne Barlyn, Deutsche bank to pay $258 million to settle U.S. sanctions case – NYDFS, REUTERS, November 4, 2015, https://reut.rs/2vraYYA ).  

ومنذ عام 2008 (سنة اندلاع الأزمة المالية التي بدأت أمريكية قبل أن تمد حريقها الى بقية بلدان المعمورة)، يُلاحَق دويتشه بنك الألماني من قبل السلطات الأمريكية بتهم تتراوح بين الاخلال بضوابط غسيل الأموال، وممارسة التزوير والتدليس في الأسواق، وبيع الأوراق المالية المسمومةToxic securities (وهذه بالمناسبة ممارسة أمريكية كانت شائعة ومنتشرة على نطاق واسع، خصوصا في ما يسمى بسوق الرهن العقاري الثانوي [Subprime mortgage] الذي هو عبارة عن قروض تمنحها البنوك لأفراد لا يتمتعون بضمان استرداد الدين. وكان هذا السوق قد أنشا بدعة المشتقات Derivatives التي اعتبرها تنفيذيو البنوك الأمريكية حينها، إحدى ابداعات وابتكارات الرأسمالية الأمريكية الفريدة. ولكن هذه المنتجات المالية الابتكارية هي التي أطلقت شرارة الأزمة المالية، حتى أنها سبقت بقليل انهيار ليمان براذرز).

وقد بلغت قيمة الغرامات والنفقات القانونية التي تكبدها البنك في القضايا التي رفعت ضده، وتراوحت بين غسيل الأموال والمخالفات القانونية، 18.3 مليار دولار، وهو ما لم يتكبده  أي بنك أوروبي آخر. ولازالت التحقيقات من جانب السلطات الأمريكية جارية مع مسؤولي البنك؛ وفي حين تمت تسوية بعض القضايا المرفوعة ضد البنك، فإن التحقيقات بشأن قضايا أخرى لازالت تنتظر مواعيد تسويتها (راجع: Nicholas Comfort, Sam Dodge and Demetrios Pogkas, Deutsche Bank’s Running Tab of Invistigations, Bloomberg, march 28, 2019, https://bloom.bg/39rmLoQ ).

 

كان دويتشه بنك يمني النفس بأن تتكلل جهوده للاندماج مع كوميرز بنك، ثاني أكبر بنك في ألمانيا في تصنيف عام 2019 (وفقا للقيمة الاجمالية لميزانيته العمومية وبأصول بلغ اجماليها 462 مليار يورو – بالنجاح. وكانت إدارته التنفيذية تشيع (لأغراض الدعاية وحماية سعر سهم البنك في البورصة)،  بأن الأسوأ قد صار خلفنا مع توجه البنك نحو مفاوضات الاندماج مع كوميرز بنك.

لكن ما حدث هو وصول هذه المفاوضات في أبريل 2018، والتي استغرقت اسبوعين، الى طريق مسدود، وبالتالي الى الغاء الصفقة برمتها. المشكلة أن البنكين خرجا مرهقين من الأزمة المالية، ناهيك عن أن الصفقة بحد ذاتها لن تعني نهاية متاعبهما، إذ كانت ستؤدي، بحسب النقابات الألمانية التي عارضت الصفقة، الى فقدان 30,000 وظيفة، إضافة الى أن الصفقة لن يترتب عليها فوائد كبيرة ملموسة، اللهم انها ستنشئ بطل مصرفي وطني يضع حدا لعلامات الاستفهام حول مستقبل البنوك الألمانية، كما كان يتمنى المسؤولون الحكوميون الألمان وفي مقدمتهم وزير المالية أولاف شولز الذي دفع بقوة من أجل اتمام الصفقة.

والصفقة، مهما كانت فوائدها، تبقى محدودة الأثر، وليست بالقدر الكافي لتعويض المخاطر والتكاليف المترتبة عليها، الا أنها على الأقل تعالج مستوى الربحية المنخفض التي يحققها المصرفان بمفردهما. المثير أن وكالات التصنيف الائتماني (وهي ثلاث شركات، كلها أمريكية:  Standard & Poor’s، و Fitch Ratings Inc.، و Moody’s Investors Services or just Moody’s}) – قد حذرت من مخاطر صفقة الاندماج، كما أن البنك المركزي الأوروبي كان سيطلب من دويتشه بنك رفع رأسماله قبل أن يعطي الضوء الأخضر لعملية الاندماج، في ذات الوقت الذي كان مستثمرو البنك الرئيسيون قد رفضوا المساهمة في رفع رأسمال البنك، معتبرين الصفقة غير منطقية (راجع: Reuters in Frankfurt, Deutsche Bank and Commerzbank merger talks collapse, The Guardian, 25 April, 2019,

http://bit.ly/31Keidv). 

على أن السؤال الذي تبادر لأذهان المشتغلين والمعنيين بأمر الاقتصاد العالمي، فور تسرب تلك المعلومات (أو الاشاعات) الى أقنية الاعلام المفتوح، هو: هل يكون دويتشه بنك النسخة الألمانية من “ليمان براذرز”؟.

ينظر بعض المحللين إلى دويتشه بنك على أنه البجعة السوداء للنظام المصرفي. كان لدى ليمان براذرز أصول بقيمة 639 مليار دولار قبل أن يتقدم بطلب للإفلاس في عام 2008. اليوم لدى دويتشه بنك موجودات تبلغ قيمتها 1.35 تريليون دولار. لكن خسائره في عام 2017 زادت على التوقعات وبلغت 497 مليون يورو، كما خفضت وكالة تصنيف ستاندرد أند بورز تصنيف البنك من (A-) الى (BBB+) نتيجة لانخفاض أسهم البنك. كما انخفضت إيراداته بنسبة 80% منذ عام 2017 (راجع: The Future of Deutsche Bank، Suisse Gold، http://bit.ly/31JPmms ).

هل يُؤذن هذا بإفلاس البنك؟

 

الافلاس (التقني/المحاسبي)، هو مصير أية مؤسسة مصرفية تفشل إدارتها ليس فقط في موازنة إيراداتها مع نفقاتها، وإنما في الموازنة بين أخذ المخاطر بناءً على دراسة حالة السوق وافقها المستقبلي القريب، وبين المحافظة على موارد حملة أسهمها ومستثمريها ومودعيها. بهذا المعنى فإن الافلاس هو أحد الاحتمالات الواردة في حالة دويتشه بنك، خصوصا إذا ما إخذنا بعين الاعتبار رفض مستثمريه تقديم الدعم المالي له لإنقاذه، وعدم صدور موقف واضح حتى الآن من جانب الحكومة الألمانية بشأن امكانية انقاذه ماليا (Bailout)، لكن هذا الموقف قد يتغير في الأشهر المقبلة. فالحكومة الألمانية لا تريد في هذه المرحلة إثارة الفزع في القطاعين المصرفي والمالي الألماني والأسواق العالمية، على اعتبار أن وضع البنك هو تحت السيطرة من جانب البنك نفسه. لكن إذا ما ساءت أحوال البنك المالية، فبالتأكيد سوف يكون للحكومة الألمانية، وربما للبنك المركزي الأوروبي، موقف آخر. وبذا فإنه كي يتمكن دويتشه بنك من البقاء على قيد الحياة، سوف يحتاج إلى تنفيذ تغييرات كبيرة في أسرع وقت ممكن. ومن غير المستبعد أن تتحرك الحكومة، في حال انهار البنك، للسيطرة عليه وتعويمه قبل إعادة بيعه، كما فعلت إدارة الرئيس أوباما مع مجموعة التأمين الأمريكية (American Insurance Group)، حين ضربها اعصار الأزمة المالية في عام 2008.

وبالفعل، ففي شهر يوليو من العام الماضي (2019) أعلن الرئيس التنفيذي للبنك كريستيان سيوينغ (Christian Sewing)، الذي كان عُيِّن في شهر أبريل 2018، عن عملية اصلاح قال إنها جذرية، من شأنها أن تقلل سقف القوى العاملة للبنك بحوالي 18,000 موظفاً، وتشمل الخطة فروع البنك في آسيا وأجزاء أخرى من العالم، بما يخفض اجمالي القوى العاملة للبنك الى حوالي 74,000 موظفا بحلول عام 2022.؛ وكجزء من إعادة الهيكلة هذه، سوف يقوم البنك بتقليص حجم بنكه الاستثماري (يجمع بنك الاستثمار لدى دويتشه بنك بين مزاولة العمليات المتصلة بالدخل الثابت والعملات، وتمويل الشركات، والأبحاث؛ وهو يركز على نقاط قوته التقليدية في التمويل والاستشارات والدخل الثابت والعملات؛ ويقدم المشورة الاستراتيجية للعملاء من الشركات التي تتضمن أعمالا تركز على أسواق رأس المال والأسهم؛ وتقديم خدمات البحث والاستشارات؛ إضافة الى القيام بعمليات مبيعات مستهدفة للأسهم)؛ وإن يعمل البنك فقط في الأنشطة التي يكون بمقدوره المنافسة فيها، والابتعاد عن تقديم  الخدمات المصرفية الاستثمارية. وبدلا من ذلك سيقوم البنك بتحديد أولويات خطوط العمل الأكثر موثوقية مثل إدارة أموال الشركات. ومع أن عملية إعادة هيكلة البنك ستُكلف البنك 7.4 مليار يورو (حوالي 8.3 مليار دولار) بحلول عام 2022، الا أنها ستخفض بالتأكيد بعض أعباء الانفاق الجاري (الأجور)، وبعض الانفاق الثابت أيضا. وكان البنك قد أعلن عن ربح سنوي في العام الماضي لأول مرة منذ عام 2014 (راجع: Julia Horowitz, CNN Business, Layoffs have started at  Deutche Bank. 18,000 jobs are going, July 9, 2019,  الرابط: https://cnn.it/3bqg87U)

الخلاصة: اشباح ليمان براذرز  

دويتشه بنك يعيش اليوم أوضاعا صعبة لا تبتعد كثيرا عن تلك التي مر بها بنك ليمان براذرز قبل انهياره. المصرفان تورطا بشكل مهول في عمليات غير مشروعة ومقامرات فائقة المخاطر. وتم تحذير البنك بالفعل من قبل مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في الأعوام 2014 و2015 و 2016  و 2017، بشأن هذه الخروقات، ومنها انكشاف البنك مالياً على سوق المشتقات (Derivatives، وهي عملية إعادة بيع مكررة لنفس الأصل “Asset”، الذي هو في الغالب، وفي هذه الحالة تحديدا، أوراق مالية {أسهم وسندات}، أو وثائق رهون عقارية). وهذه الاصول الخردة (التي لا قيمة حقيقية لها بسبب عدم وجود ضمان أو غطاء مالي لها)، لازالت موجودة في موازنة البنك (محسوبة محاسبيا على جانب الأصول)، كما هو حاصل، بالمناسبة، في بنوك أخرى أوروبية أخرى. وفي دويتشه بنك بالذات، فإن هذه المشتقات، أو الأصول المسمومة، ومعظمها  رهون عقارية أمريكية من مخلفات الأزمة المالية العالمية لعام 2008، تصل قيمتها الاجمالية الى أرقام خيالية، إذ هي تفوق الـ 40 تريليون دولار (الاقتصاد الألماني كله أقل من 4 تريليون دولار). وهذه كانت من الأسباب التي هوت بسعر سهم “دويتشه بنك” الى حوالي 7 يورو منذ يناير 2019، مقارنة بسعره في عام 2014، وهو 34 يورو.

إنها تركة (التورط في الأصول المسمومة، وتحديدا المشتقات، والابقاء على أسعارها الدفترية في الميزانيات رغم انهيار قيمتها السوقية)، لازالت تنوء بثقلها على ميزانيات بنوك أوروبية أخرى، كما أسلفنا. والمثير أن إدارة الرئيس ترمب تريد تخفيض الضوابط التنظيمية التي أقرتها إدارة أوباما إبان الأزمة المالية، من أجل السماح للبنوك التي لازالت في حكم المتعثرة، مثل دويتشه بنك، بالتلاعب محاسبياً في تقييم أصولها. وإذا لم ينجح ترمب في مسعاه، فقد يلجأ الى التساهل في تطبيق هذه الضوابط، بما يحفز إدارة البنك الحالية، على تخفيف اندفاعها نحو إعادة هيكلة البنك و تنظيف حساباته من الأصول المسمومة (Toxic Assets).

وكما قيل تبريرا لعمليات الانقاذ المالي الضخمة للبنوك الأمريكية إبان أزمة 2008، من أنها أكبر من أن تُترك لتلقى مصير الافلاس (Too big to fail)، لأنه يترتب على انهيارها ضرر فادح على الاقتصاد، فإن الراجح أن تتحرك الحكومة الألمانية في اللحظة المناسبة لإنقاذ البنك من السقوط، وذلك بتمويل عجوزاته بأموال دافعي الضرائب، كما حدث في الولايات المتحدة وبريطانيا. فـ دويتشه بنك، بالنسبة لألمانيا هو في مقام أهمية وشهرة سيارة المرسيدس التي تعتبر فخر الصناعة الألمانية. وبعيداً عن التدليس المحاسبي، فإن القيمة الدفترية للبنك تساوي اليوم 1.35 تريليون يورو، أي ما يوازي 36.5% من اجمالي الناتج المحلي الألماني البالغ 3.677 تريليون يورو.

أخيراً، فإن الفتور الذي تمر به العلاقات الألمانية الأمريكية في ظل رئاسة دونالد ترمب والناتجة عن جملة املاءات تريد واشنطن فرضها على المانيا، ومنها اجبارها على تخصيص نسبة 2% من اجمالي ناتجها المحلي لتمويل ميزانية حلف شمال الأطلسي؛ وفرض عقوبات على الشركات الأوروبية المشاركة في مشروعي الطاقة الأوروبيين الاستراتيجيين: مشروع خطّ أنابيب نورد ستريم 2 الروسي- الألماني، ومشروع تورك ستريم، وهو أنبوب آخر يمتدّ من روسيا إلى تركيا؛ واتهام واشنطن لبرلين بالتسبب، بسياساتها الاقتصادية التقشفية في الاتحاد الأوروبي، في تعطيل  النمو الذي تسبب بدوره في ضعف أكبر أسواق الصادرات الأمريكية، أي أسواق الاتحاد الأوروبي؛ وتهديدها مؤخرا باتخاذ اجراءات لتعطيل الصادرات الألمانية إلى الولايات المتحدة التي بلغت في عام 2018 126 مليار دولار – هذا الفتور – كي لا نقول التوتر – في العلاقات بين واشنطن وبرلين، سوف يلقي بظلاله السلبية بالتأكيد على الأجواء التي يعمل فيها البنك لتنفيذ خطة اصلاحه وتسهيل عملية انقاذه في حال اضطرت الحكومة الألمانية للإقدام على هذه الخطة الباهظة الكلفة.

 

 

————————————————————————————————–

 

*الدكتور محمد الصياد اقتصادي بحريني يعمل مستشاراً في شؤون النفط والغاز والشؤون الاقتصادية الدولية. عمل سابقاً ممثلا لقطاع النفط والغاز  في مفاوضات منظمة التجارة العالمية (WTO) وممثلا لمملكة البحرين في مفاوضات تغير المناخ.

—————————————————————————————————–

 [[1]] انظر :

Alexa: Zero Hedge traffic statistics”. August 2018; and “Similarweb: ZERO HEDGE”. August 2018; and “Rank2traffic: zerohedge.com: Web Analysis and traffic history for 9 years”. August 2018.  كما وضعته مجلة “تايم” الأمريكية في مارس 2011، في المرتبة التاسعة ضمن أفضل 25 مدونة مالية عالمية (انظر: Paul Kedrosky 11 March 2011 “The 25 Best Financial Blogs: 9 Zero Hedge”).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى