الإقتصاديموضوع مميز

التكيف مع عالَم يتسارع إلى الأمام

         التكيف مع عالَم يتسارع إلى الأمام

د. محمد عبد الله العريان

لندن ــ الآن، بات لزاما على الشركات والحكومات أن تستوعب على نحو متزايد احتمال ــ أزعم أنه احتمال ساحق ــ يتمثل في تسارع أربعة تطورات ذات طبيعة مزمنة تؤثر على ما يفعله قادة الأعمال والسياسة، وكيف يفعلونه. وينبغي لصناع القرار أن يفكروا في هذه الاتجاهات على أنها موجات، والتي قد تبدو، وخاصة إذا حدثت متزامنة، وكأنها تسونامي يجرف أولئك الذين يفشلون في تكييف فكرهم وممارساتهم في الوقت المناسب.

الاتجاه الأول والأكثر أهمية هو تغير المناخ، الذي تطور من هَم بعيد نسبيا، حيث في الوقت متسع لاتخاذ التدابير المناسبة لعلاجه، إلى تهديد وشيك وملح على نحو متزايد.

كان تحرك مختلف شرائح المجتمع المعنية، والذي يرجع جزئيا إلى الاضطرابات المناخية غير العادية في السنوات الأخيرة، سببا في تزايد الضغوط إلى حد كبير على الشركات لحملها على التصرف الآن. وكان إعلان شركة بريتيش بتروليوم الأخير عن اعتزامها تحقيق هدف خفض الانبعاثات الكربونية إلى مستوى “الصفر الصافي” بحلول عام 2050 ــ وهو وعد جدير بالاهتمام من قِبَل شركة طاقة تعمل في العديد من البيئات الشديدة الصعوبة ــ المثال الأحدث على استجابة قطاع الأعمال لمثل هذه الدعوات. إنها مسألة وقت فقط قبل أن يدفع هذا الضغط الحكومات أيضا إلى اتخاذ المزيد من الخطوات، ليس فقط لتشجيع الأنشطة الخضراء، بل وأيضا لفرض الضريبة على الشركات التي تسبب التلوث وتنظيم أعمالها.

ثانيا، تنامت المخاوف بشأن الخصوصية إلى جانب الابتكارات التكنولوجية التي تنطوي على استخدام الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة.

يدرك المجتمع على نحو متزايد أن التطورات التكنولوجية الحديثة لا تسمح بتجميع أكثر كفاءة لكميات هائلة من البيانات الشخصية وحسب، بل وتسمح أيضا باستخدام هذه المعلومات لرصد ومراقبة وتغيير السلوكيات. في عموم الأمر، تخضع البيانات لسيطرة واستغلال الحكومات (وخاصة في الصين)، أو شركات التكنولوجيا الكبرى (كما هي الحال في الولايات المتحدة)، أو المستخدمين (كما هي الحال في أوروبا). ولكن يبدو أن كل نماذج التشغيل العامة الثلاثة هذه لا توفر القدر الكافي من الارتياح والاطمئنان لأغلب الناس.

ينطوي التطور الدائم الثالث على الارتباكات التي أحاطت بعملية العولمة الاقتصادية والمالية التي دامت لعدة عقود من الزمن.

تتمثل الشرارة الأولى التي أفضت إلى هذه الارتباكات في التحول الذي أدخلته إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب على محور السياسة التجارية ــ من حل النزاعات بشكل تعاوني إلى المواجهة الصريحة، ومن التعددية إلى الثنائية (أو حتى الأحادية)، ومن الترتيبات القائمة على القواعد إلى ترتيبات ارتجالية تبعا للحاجة ــ والتي تهدف إلى خلق نظام تجاري يظل حرا لكنه أكثر عدالة. لكن التراجع عن العولمة تسارع بفِعل تفشي فيروس COVID-19 الفتاك، الذي تسبب في انقطاع تدفق السلع والخدمات في الصين وخارجها.

الواقع أن هذه التحديات التي تواجه العولمة فتحت الباب أمام الحكومات لاستخدام الأدوات الاقتصادية كسلاح لتحقيق أهداف تتجاوز الاقتصاد، مثل الأمن القومي. وهذا بدوره يدعو إلى التشكيك في الرأي التقليدي حول سلاسل الإمداد عبر الحدود، وإدارة المخزون في الوقت المناسب، والاعتماد على الطلب الخارجي لتعزيز النمو المحلي.

أما الاتجاه الأخير فهو ديموغرافي (سُـكَّاني) ولا يتعلق بشيخوخة المجتمعات في أوروبا وآسيا والآثار الاقتصادية والسياسية الناجمة عنها وحسب، بل ويذهب إلى ما هو أبعد من الإدراك المتنامي بأن توقعات جيل الألفية المختلفة بشكل صارخ ــ في ما يتعلق بالحياة المهنية، والمشاركة الشخصية، والعمل السياسي، وتسليم السلع والخدمات ــ سوف تستمر وتثابر وتتعمق.

بادئ ذي بدء، يتعين على الشركات أن تكون أكثر ذكاء في ما يتصل بالتسليم “في أي مكان وأي وقت”. علاوة على ذلك، نشهد الآن تراجع أهمية الولاء والتثبيت الوظيفي، في حين تتعاظم التوقعات بشأن الإنجاز الوظيفي الشامل والمشاركة. كما أصبح الاستنفار الذاتي، لأسباب سياسية وغير ذلك، وغالبا في غياب بنية قيادية واضحة، أسهل كثيرا، لكنه عادة أقل دواما ويثير تساؤلات شائكة حول ما قد يأتي بعد ذلك. وكل هذا يجري وسط الهجرة المستمرة لمجموعة متزايدة الاتساع من التفاعلات من المساحات المادية إلى المساحات الافتراضية.

سوف تخلف كل من هذه القوى تأثيرا مهما على مدى فعالية ونجاح الشركات والحكومات على حد سواء. فعلى الرغم من التحدي الذي تفرضه هذه الاتجاهات الأربعة في الإجمال، فإنها تنطوي على مجموعة متنوعة ومتوزعة جغرافيا من الفائزين والخاسرين. ولهذا، يتعين على القادة التنفيذيين وصناع السياسات أن يعكفوا على إجراء مراجعات وافية (بما في ذلك التغييرات الاستباقية) ليس فقط لنماذج الأعمال وأساليب التشغيل، بل وأيضا لعقلياتهم التكتيكية والاستراتيجية.

يتطلب تحقيق هذه الغاية على النحو الصحيح التنوع المعرفي، والانفتاح على النقد البنّاء، والتحليلات المتكررة للسيناريوهات، والمناهج المتعددة التخصصات. فضلا عن ذلك، ولأن كل من هذه الاتجاهات الأربعة تنطوي على درجة كبيرة من عدم اليقين (في ظل عدد كبير من المجاهيل المعلومة، وربما أكثر من بضعة مجاهيل مجهولة من خلفها)، فمن الأهمية بمكان أن يتوفر أيضا مزيج من المرونة والاختيارية وخفة الحركة. وكل هذا حتى قبل أن نضع في الاعتبار الصدمات الدورية التي لا يمكن التنبؤ بها مثل تفشي فيروس كورونا الجديد COVID-19.

لا تقتصر التحديات التي تواجه عملية صنع القرار والقيادة السليمة في كل من قطاع الأعمال والحكومة على رسم خريطة لكل من التوجهات الأربعة وسبل التكيف اللازمة، بل يتعين على صناع القرار أن يضعوا في الحسبان أيضا علاقات الارتباط والعلاقات السببية بين هذه الاتجاهات والتي من الممكن أن تجعل تأثيرها الكلي مضاعفا وليس إضافيا وحسب.

على سبيل التوضيح السريع، لنتأمل هنا جانبا آخر من جوانب التغير السكاني: الهجرة والتحديات الإنسانية التي ترافقها عادة. إن تغير المناخ يجعل الدول في مواجهة إمكانية حدوث موجات من التدفقات البشرية المهاجرة التي ستجد صعوبة في قبولها في حين ينطوي رفضها على وحشية.

لا يقل عن هذا إزعاجا ذلك المزيج من التراجع عن العولمة وإساءة استخدام الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة لانتهاك الخصوصية الفردية. لأن هذا قد يفضي إلى سلوكيات مريبة من جانب بعض الحكومات ويشجع قوى خبيثة غير تابعة لأي دولة بعينها على تعطيل المجتمعات والاقتصادات.

الواقع أن العالم يمر بفترة من التغير المتسارع، وأبرز مظاهره القائمة المتنامية من التطورات التي تحولت من المستحيل إلى الحتمي. وربما يمكن تقسيم العديد من التحديات التي تواجه قادة الأعمال والسياسة إلى أربعة تغيرات ذات طبيعة دائمة يمكنها أن تساعد في تثبيت الصياغة الملائمة للاستجابات اللازمة على المستويات المحلية، والوطنية، والإقليمية، والعالمية. وكلما سارعت الشركات والحكومات إلى إدراك هذا، كلما تعاظمت إمكانية نجاحها في تغيير التوازن بين الفوائد والتكاليف والمخاطر لصالحها.

 

—————————————————————————————————————

ترجمة: إبراهيم محمد علي    

 

————————————————————————————————————————

محمد عبد الله العريان كبير المستشارين الاقتصاديين في أليانز، وكان رئيسا لمجلس الرئيس الأميركي باراك أوباما للتنمية العالمية، وهو مؤلف كتاب “اللعبة الوحيدة في المدينة: البنوك المركزية، وعدم الاستقرار، وتجنب الانهيار التالي“.

@حقوق النشر محفوظة بالعربية لـ جريدة برواز الالكترونية

projectsyndicate@

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى