فن وثقافة

تحليل رواية حكاية بلا بداية و لا نهاية للأديب نجيب محفوظ

 

 

بقلم : رانية فهد القطامي

[email protected]

الصراع سرمدي كما يقول عنوان الرواية “حكاية بلا بداية و لا نهاية”. الإنسان يسعى منذ زمن سحيق ليحقق ذاته ليصبح في “الموقع الأفضل”. لكن نجيب محفوظ لم يشرح ما معنى الأفضل أو لم يقل ما هو الأفضل و تركها لتقدير القراء. هذه المجموعة القصصية ثرية جداً، و تلعب الماورائيات دور البطولة فيها، و بالرغم من أن هذه المجموعة القصصية ليست الأشهر لدى عشاق نجيب محفوظ فإن ذلك لا يزيدها إلا سحراً و طابعاً فريداً لا يوجد إلا بها. في هذا المقال نركز على الحكاية الأولى، و هي إشكالية أزلية تتغير بتغيير الزمان و المكان و النظريات و الأشخاص و لكن جوهرها ثابت غير قابل للتغيير. القصة معنية بالماورائيات و ما يحكم الإنسان من أمور معنوية و دوافع نفسية كالعلم و الدين و الفلسفة و الأخلاق و العادات و التقاليد و كيف يمكن أن تنفع هذه الماورائيات و كيف يمكن أن تضر.

ملخص رواية “حكاية بلا بداية و لا نهاية”

تقوم مجموعة من شباب الحارة الجامعيين الفقراء بثورة على “محمود الأكرم” شيخ الطريقة الأكرمية و رجاله بقيادة “علي عويس”، و السبب هنا بالنسبة للطلبة الجامعيين هو أن الطريقة الأكرمية عبارة عن خرافة و كذبة قديمة لا تتناسب مع الوقت الحالي، و لا بد من طمسها و تعريتها لتحل محلها الحقيقة. يقوم “محمود الأكرم” بالدفاع عن نفسه و طريقته و إرثه. في خضم هذا الصراع تقوم المعلمة “زينب عويس” بالدفاع عن أخيها “علي عويس”. عندما تتصاعد الأحداث و تأخذ منحنى جدي جداً تضطر “زينب عويس” للاعتراف أمام “محمود الأكرم” بأن “علي عويس” ليس بأخيها و لكنه ابن “محمود الأكرم” الغير شرعي. يقف “محمود الأكرم” وقفة المحتار بين مصلحته الشخصية و منظره الاجتماعي أمام الناس و المريدين، و بين الواجب الذي لا بد أن يقوم به. أخيراً تنتهي الرواية و “محمود الأكرم” على وشك الاختيار.

شخصيات الرواية

محمود الأكرم: شيخ الطريقة الأكرمية، و الوريث الوحيد لها.

رجال الطريقة: أتباع محمود الأكرم.

الشيخ تغلب الصناديقي: مريد قديم صادق و عاملٌ دؤوب على مصلحة العامة.

زينب عويس: مدرسة أطفال.

علي عويس: الشقيق الأصغر لزينب عويس و قلب الهجوم في مجموعة الطلبة الجامعيين المطالبين بالحقيقة، و تظهر الحقيقة في النهاية بأنه الابن الغير شرعي لمحمود الأكرم و زينب عويس.

أم هاني: تعتبر مربية محمود الأكرم و هي المسؤولة عن شئون المنزل الذي يسكنه محمود الأكرم.

تحليل شخصيات الرواية

محمود الأكرم: الجانب النصي للدين أو المظاهر الدينية الخاوية من المحتوى. العادات و التقاليد المتوارثة و التي تمارس بدون تفكير و التي تستحوذ على الإيمان المطلق بأي تشكيك بحكمة السابقين، و مع إيمانهم تصب أموال المريدين في خزينة الطريقة على هيئة قرابين و أثمان تدفع من أجل صكوك الغفران و تحرير النفس البشرية من الشعور بالذنب و الإثم. و هي السلعة الأساسية التي يبيعها (المصرف\المعبد) فهو يقتات على استمرارية إحساس المريدين بأنهم خطاؤون و لابد من دفع الثمن.

رجال الطريقة: الموظفون القائمون على (المصرف\ المعبد) و هم أول المستفيدين بعد محمود الأكرم من هذه المؤسسة الربحية القائمة على صناعة الوهم و تغليفه و تسويقه و بيعه للبسطاء من المريدين الحالمين بالمعجزات و الكرامات. و هم من يخشاهم محمود الأكرم عندما قرر أن يواجه نفسه و يواجه المريدين.

الشيخ تغلب الصناديقي: المعنى الجوهري و الروح الحقيقية للدين و المحتوى الفعلي للنص الديني المصحوب بالتطبيق لهذا النص من دون أي تناقض. و هو يمثل الصدق و العمل الجاد و الشجاعة و نرى هذه الصفات عندما تكلم مع محمود الأكرم فقد كان صادقاً شجاعاً قوياً، لم يجامل محمود الأكرم و لذلك اختلف معه محمود. و نرى أيضاً أنه متفقٌ اتفاق تام مع علي عويس أي العلم و الحرية الفكرية، و هنا يشير نجيب محفوظ بأن اختلاف العلم (على عويس) هو مع الظاهر الديني الأجوف و ما يمثله من سطحية و مظهرية و مصالح شخصية (محمود الأكرم) و ليس مع (الشيخ تغلب الصناديقي) المعنى الحقيقي للدين.

زينب عويس: هي الفلسفة و المنطق المحايد، لذلك هي تحمل سر خطيئة محمود الأكرم الذي هو بدوره أراد أن يحملها مسؤولية الخطيئة كاملة و كأن ليس لديه أي يد فيما حدث سلفاً. و لكن بما أن لدى زينب إرادة حديدية كما وصفها محمود الأكرم فهي تنقلب كما تريد هي أن تكون لا كما أراد لها محمود الأكرم أن تكون. الفلسفة هي إعمال العقل، و التفكر و التدبر و الإمعان في شئون الخلق و الكون لذلك زينب تطرح الكثير من الأسئلة و تشكك حتى في إيمان محمود الأكرم شيخ الطريقة. بينما التقليد يأمر العقل بالاطمئنان و الكسل و التسليم و عدم التشكيك في أي شيء.

علي عويس: العلم و ثورة العلم الحديثة التي تريد أن تقوض صرح الخرافة و الأسطورة (المصرف\ المعبد) الغير قائم على بحث علمي هدفه الأساسي هو البحث عن الحقيقة البحتة و لا شيء غيرها و هدف العلم هنا هو تحقيق الحرية و العدالة و المساواة قبل أي شيء. يرمز هنا نجيب محفوظ إلى علي عويس بأنه الابن الغير شرعي لمحمود الأكرم و زينب عويس. أي أن العلم هو النتيجة الطبيعية لاتحاد الدين بالفلسفة و بالتالي لا يوجد هناك أي خلاف بين العناصر الثلاثة، في نهاية القصة يعترف محمود الأكرم بابنه و يعده بأنه يعترف به و يعطيه اسمه، بما معناه بأنه سيتزوج زينب ليصبح علي عويس علي محمود الأكرم مما يدل على توافق العناصر الثلاثة و انسجامهم مع بعضهم البعض في أسرة واحدة. بالرغم من أنهم متفقين على الجوهر إلا أنهم مختلفين في الطباع و طريقة التطبيق. لذلك نجد بأن هناك مريدين كثر للطريقة الأكرمية و لكن زينب عويس وحدها طوال الوقت بلا مريدين ولا جمهور. كما أنه الكثير من المؤمنين على أرض الواقع من مختلف الأديان و لكن المتمرسين في الفلسفة قلة في العدد و هناك سببٌ وجيه لهذا التوجه الديني، الدين به من المرونة ما يراعي به مشاعر الإنسان حين مخاطبته و أحياناً حتى مستوى تفكيره و تعليمه و ثقافته، بينما الفلسفة صريحة و فجة و لا تراعي مشاعر أحد و لا مستوى فهمه.

أم هاني: هي التاريخ أو بمعنى آخر هي الوقت الذي شهد كل الأحداث في بيت الأكرم، و لذلك هي مستودع الأسرار لكل ما حدث من أحداث ذات خطورة و أهمية، و تحتفظ بهذه الأسرار في خزانة حديدية بلا مفتاح. تكاد تكون أم هاني فيلماً وثائقياً محايدا يجيب على كل أسئلة محمود الأكرم بالإيجاب عن كل فضائح الأسرة الأكرمية و على يد هذا التاريخ الموثق و المصدر الثقة تكون نهاية الشرف المزعوم للتقليد و الموروث، أي أن العادات و التقاليد لا تخلو من جرائم و ممارسات لا أخلاقية تحت مسمى الشرف و بالتالي نهاية الإيمان بالطريقة الأكرمية.

الشيوخ الثلاثة المريدين القدامى أصحاب المخطوطات

الشيخ أبو كبير: رمز لعالم الفلك البولندي “كوبرنيكوس” الذي اكتشف بأن المركزية في المجموعة الشمسية للشمس و ليست للأرض، يظهر ذلك حينما قال محمود الأكرم:”من يصدقأن بيتنا ما هو إلا فرع من فروع لا حصر لها من بيوت الطريقة لا أنه الأصل الذي انبثق منه النور؟”

الشيخ الدرملي: المقصود به هنا هو عالم التاريخ الطبيعي “تشارلز داروين” صاحب نظرية التطور الشهيرة، و يظهر ذلك حينما قال محمود الأكرم:”و إنه جاء الحارة أشعث أغبر عاري الجسد لا يختلف شيئاً عن الحيوان الأعجم؟”

الشيخ أبو العلا: مؤسس علم التحليل النفسي و المفكر الحر “سيجموند فرويد” و الذي نعته محمود الأكرم بالتالي:”ذلك الوحش الذي يتلذذ بتمزيق الأعراض”.

تحليل الرواية

يطرح نجيب محفوظ هنا افتراضاً واقعياً، يحدث دائماً لنموذج العادات و التقاليد عندما تتعارض مع الحداثة، و طرح أيضاً مثالاُ حياً للعلم عندما يصطدم بالأساطير المقدسة و يبرهن بطلانها، و أخيراً طرح لنا دليلاً فيما يسمى استغلالاً و يتم تغليفه بأكثر من غلاف غليظ لكي لا يتم اكتشاف الخرافة و عدميتها. على سبيل المثال في الهند في العصور القديمة كان يقام طقساً دينياً مقدساً للأرملة بعد وفاة زوجها و هو حرقها في النار حتى تلحق بزوجها. و النص الديني الغير قابل للنقاش كان يقول :”موتى حرقاً تنالي شرفاً”، و في أغلب الأحيان كانت الأرملة تذعن لإرادة المعبد و المجتمع و جميع المقدسات. بينما المستفيد آنذاك و هو من قام بتأليف تلك الخدعة الدينية النفسية هو الجهة المسؤولة عن الإنفاق على الأرامل و قد قاموا بتصميم هذه الخرافة من أجل يتخلصوا من نفقاتها من قبل الجهة المختصة. حيلة نفسية عقلية و عاطفية طاعنة في القدم. التلاعب النفسي في البسطاء من الناس لأنهم يشكلون الأغلبية واغلاً في القدم و الدليل على ذلك مقولة ابن رشد :”إذا أردت أن تتحكم في جاهل عليك أن تغلف كل باطل بغلاف ديني”. بالطبع هذا الطقس الديني المزيف لم يعد موجوداً في الهند اليوم و يعد جريمة يعاقب عليها القانون.
هذه القصة مثالٌ حي لما أراد قوله نجيب محفوظ في روايته و النتيجة ليست حتمية أو في صالح جهة معينة. حتى لو أثبت العلم صحة معلومة ما، فهو لا يصل إليها بسهولة عن طريق البحث العلمي لأنه مكلف بطبيعته، و ليس هذا هو التحدي الوحيد في عملية البحث العلمي بل ما يليها من غضب و سخط و اتهام بالكفر و إصدار أحكامٍ بالإعدام. نرى هنا أن قوى التقليد المقدس العتيق تلجأ لأسلحتها التقليدية الفتاكة لإزالة ما هو غير تقليدي و يتعارض مع المصالح الشخصية المادية و المعنوية لأفراد التقليد المستبدين و المستفيدين من التقليد المقدس.
يستحضرني هنا مثالاً آخر على هذا الصرح التقليدي الراسخ و هو ما قبل الثورة الفرنسية. كانت الجهة الدينية المسؤولة ترسخ لقيمة واحدة للفلاحين و الفقراء و البسطاء من الناس ممن يشكلون الأغلبية الساحقة من الشعب الفرنسي، و تقول هذه القيمة “الفقر فضيلة و الغنى رذيلة”. بهذه المقولة قضى عموم الشعب الفرنسي عمره البائس في العمل الشاق و دفع الضرائب و القرابين عن طيب خاطر من أجل هذا النص المقدس. لكن عندما قام الفيلسوف الفرنسي جان جاك غوسو بتأليف كتابه الأشهر “العقد الاجتماعي” بعد ثلاثين عاماً من تأليفه لهذا الكتاب أصبح كتاب “العقد الاجتماعي” الإنجيل الملهم و النص المقدس لهذه الثورة. نرى هنا أن القدسية لم تختفي و لم تعدم و لكنها ببساطة انتقلت من مكانٍ إلى آخر و من معنى إلى آخر، و قد قامت الثورة الفرنسية عام ١٧٨٩ و استمرت إلى ١٧٩٩ و قد ضربت هذه الثورة أروع مثالاً للبشرية و غيرت وجه العالم للأفضل و الأجمل، و لكن الشعب الفرنسي قدم الكثير من التضحيات و الشهداء من أجل هذه الثورة، كما و أن هذه الثورة خلفت الكثير من الصراعات و النزاعات و الفوضى و أحياناً كان يختلط الحابل بالنابل و الصح و الخطأ مقابل الفهم و الاستيعاب الكاملين المصحوبين بالوعي و الإدراك للمصطلحات الثلاث المكتوبة اليوم على مبنى مجلس الأمة الفرنسي الكائن في مدينة باريس العاصمة الفرنسية و هي “حرية، أخوة، مساواة”.
القصد من هذا الشرح المفصل و المطول هو أن قوى التقليد ستدافع عن أصنامها و كيانها الكهنوتي و خرافاتها و أساطيرها إلى أبعد مما نتخيل، لأن هناك الكثير من المستفيدين من هذا الصرح التقليدي لذلك نرى ماحصل في الثورة الفرنسية بالنسبة للإقطاعيين و الملك و حاشية الملك و الجهة الدينية المتآمرة مع نظام الملك، و كيف دافع النظام عن كيانه حتى النفس الأخير. وددت أن أوضح في الفقرة السابقة ما هي الصعوبات التي قد تعترض البحث العلمي أو البحث عن الحقيقة.
هذه الحكاية التي بلا بداية و لا نهاية تطرح على بساط البحث علاقة الدين بالعلم و بالفلسفة و بالتاريخ و صراع المظهر الديني الأجوف بروح الدين العميقة و المجردة من أي مصلحة شخصية. وضح لنا نجيب محفوظ بأن القوى الاجتماعية المتمثلة في الدين كسلطة لها صلاحية مطلقة لإصدار الأحكام دون نقاش. هي كقوى مستفيدة تحافظ على قدسيتها و تاريخها المزعوم و امتيازاتها المادية و المعنوية في حياة البسطاء.
بالرغم من أن النهاية الحتمية تأتي في صالح العلم و الحداثة إلا أنها كما تم ذكره سابقاً بأنها تمر خلال صراع من أجل البقاء يموت خلاله الكثير من الأبرياء و تضيع خلاله الكثير من الحقوق و يخلف هذا الصراع ندبة عميقة تشوه النفس البشرية لفترة طويلة الأمد على مدى أجيال متعاقبة.
محور هذا الصراع في قصتنا هي الطريقة الأكرمية بزعامة محمود الأكرم. الطريقة لها مريدين و حيكت حولها شبكة من أساطير الكرامات المقدسة و التي كادت أن تصبح حقيقة راسخة في ذهن المريدين و المجاذيب. النتيجة لهذا الإيمان المطلق بالطريقة الأكرمية هي قوة و سلطة و نفوذ و مصالح و أموال يدفعها المريدون عن طيب خاطر لمحمود الأكرم و كبار رجالات الطريقة. مع مرور الوقت أصبحت الطريقة بنيانٌ مرصوص و قلعةٍ حصينة راسخة، يصعب اختراقها. أي أن الطريقة الأكرمية لم تعد مجرد سبيل يسلكه “العائدون إلى الله” و لكنها تحولت إلى “مصرف” يودع فيه المريدون أموالهم عن اقتناع بأن أموالهم تنفق في وجه الله، و يحمل هذا المصرف مظهر المعبد الكهنوتي و يحتوي على الكثير من الأصنام و الهياكل العتيقة التي لا حياة بها و لا عقل لها و بالتالي ليست هي المستفيدة من الأموال و القرابين. بذلك تتحول الأموال و الطاعة العمياء و الإيمان المطلق إلى مصالح حيوية مادية و معنوية للأكرم و رجاله و إن لم تكن هذه هي البداية التي من أجلها تم إنشاء الطريقة. أصبح هذا (المصرف\ المعبد) يطالب المريدين بمزيد من الأموال و الإيمان و الطاعة و الولاء أي أنها مع مرور الوقت أصبحت حقوقاً مكتسبة، و مرت عقودٌ طويلة هادئة من دون أي احتجاج أو صراع، و ذلك بسبب سعادة الطرفين و هو (المصرف\ المعبد) المستفيد و المريدين المؤمنين المتيمين بالولاء للطريقة الأكرمية.
إلى أن جاء يوم …
ظهر شباب الحارة و هم في سن المرحلة الجامعية في بدايتها، و يرمز هنا سن الشباب إلى اجتماع العقل بالقدرة على التصرف عن طريق الحركة المؤدية للتغيير. هؤلاء الشباب هم من يمثلون القادمون الجدد في مواجهة محمود الأكرم و قلعته الراسخة.
يسخر شباب الحارة من الطريقة و السخرية هنا تعني الاستخفاف و الاستخفاف يعني عدم الإيمان و يترامى هذا السلوك إلى رجال الطريقة و يصيبهم الذعر لأن هذا الاستخفاف ليس بتمرد عابر و لكنه سخرية نابعة من اكتشاف مقدسات أخرى و هي الإيمان بالعلم و المنطق و إزالة ما دون ذلك دون أي مجاملة، و الوعد بعالم جديد خالٍ من الخرافات و الأساطير و الخداع للجماهير الساذجة.
يلفت نجيب محفوظ نظرنا هنا أيضاً إلى جانب الانتماء. ينتمي شباب الحارة المتعلم إلى الحارة بطبيعة الحال عاطفياً. أولاً لأنهم نشأووا في الحارة و لديهم الكثير من الذكريات، و ثانياً لأنهم يتشاركون في المعاناة من معايشة الفقر و الجهل الناتجين عن الإيمان بالخرافة و هم في نفس الوقت ينتمون عقلياً إلى الجامعة عقلياً و يلجأون إلى هذا الانتماء الجديد كأنه الخلاص أو حلٌّ منقذ و المخلص من الفقر و الجهل و الحارة الغارقة في الظلام الدامس. بالإضافة إلى هذا التحليل نسأل أنفسنا السؤال التالي: “إن كان هذا التمرد و الاستخفاف عبارة عن لا شيء، سحابة صيف، عبث أطفال، فلماذا أصيب رجال الطريقة الأكرمية بالهلع؟” الجواب هو بأن رجال الطريقة هم أعلم الناس بالخرافة، إنهم خبراء في صناعة الوهم و من ثمة تغليفه بغلافٍ مشوق و بعدها تسويقه و بيعه للمريدين بأعلى سعر. و هم من لا يحتاجون إلى إثبات بأن طريقتهم الأكرمية خرافة بشرية تم تسويقها و بيعها على إنها معجزة إلهية. و هناك سوق رائج لهذا النوع من السلع المغرية يشتريها البسطاء من الناس و يدفعون ثمنها غالياً من قوت يومهم و عقلهم و حريتهم و مستقبلهم مقابل أن يعيشوا في وهمٍ آمن. نستنتج من ذلك بأنهم رجال أعمال من العيار الثقيل و من الطراز الأول و بضاعتهم رائجة و سوقهم مزدهر و تجارتهم لا تبور، و ليسوا برجال دين كما يدعون.
الانتماء في هذا السياق يلفت النظر إلى الوعي الذاتي في حضور الآخر. الجامعة في هذا النص المحفوظي هي الآخر، لأن الجامعة ليست بحارة أخرى لذلك فهي تحتوي على وعي و إدراك و نصوص و فهم و معتقدات و علوم مختلفة عن محتوى الحارة و مخزونها الثقافي الغارق في القدم و الذي لم يطرأ عليه أي تغيير قط منذ بداية نشأة الطريقة. بذلك تصبح الجامعة في نظر رجالات الطريقة سبباً في الانحراف عن الطريقة، و قد تم وصف الجامعات بأنها “معاقل أجنبية”. ﻷنها لا تخضع للطريقة الأكرمية و لا تنطبق مفاهيمها على مفاهيم الطريقة الأكرمية. إذاً علم و حقائق الآخر هي التي تهدد خرافات الذات. الحارة لا تشكل خطراً على الطريقة، ليست كالجامعة التي تستطيع البرهنة على أكاذيب الطريقة بكل سهولة و سرعة و تعريتها تماماً من قدسيتها و بالتالي القضاء عليها.
قد يكون التساؤل العلمي و الفلسفي هو الشرارة الأولى لاشتعال الحريق و لكن لن يكن هو من يضرم النار و يغذيها بشكلٍ مباشر ليقضي على (المصرف\ المعبد) و لكن سيتغذى هذا الحريق الكبير على يد ثلاثة مريدين متسائلين عن مدى مصداقية الطريقة فيكون المنهج العلمي من أجل الوصول إلى الحقيقة و توثيقها في مخطوطات. و هم الشيخ أبو كبير، و الشيخ الدرملي، و الشيخ أبو العلا. و يمتاز هؤلاء بأنهم لا يسعون إلى مصلحة شخصية بل يريدون الحقيقة خالصة كما أرادها شباب الحارة.
محمود الأكرم شيخ الطريقة متعلم و مشكلته مع القادمين الجدد ليست مشكلة تفاوت علمي. أي أن أزمة شباب الحارة لم تكن تكمن في جهل أو علم محمود الأكرم و لكن في تكوينه الأخلاقي. علم محمود الأكرم يضاعف من مسؤوليته أمام القادمين الجدد لأنه يدرك ما يفعل بكل وضوح. محمود الأكرم نشأ منذ الصغر مدللاً أنانياً جشعاً مقدساً و غير مسؤول عن أي شيء و غير مطالب بعمل أي شيء. و قد تكون فكرة تعليمه كانت إضافة بعض البهرجة أو كانت مجرد رفاهية باستطاعته أن يدفع ثمنها. لأنه لم يعمل و لم يجتهد بعد التخرج. على عكس المريدين المؤمنين الزاهدين.
محمود الأكرم لم ينتبه إلى التغيير الذي طرأ عليه هو شخصياً قبل أن ينتبه إلى ثورة القادمين الجدد، و نرى التغيير الذي طرأ على محمود الأكرم من خلال الزي الذي يرتديه. محمود الأكرم ارتاد الجامعة و أصبح يرتدي بدلة و ربطة عنق و لكنه لم ينزع العمامة من على رأسه. الرأس هنا يرمز للعقل بكل ما يحتويه من قدرة على تسيير حياة الإنسان. ترمز العمامة بأن محمود الأكرم أخذ علوم الآخر من باب الفضول فقط لا للإيمان بها، كمن يقرأ نص لمجرد القراءة السطحية و أثرت هذه القراءة تأثيراً سطحياً على طريقة كلامه فقط لا طريقة تفكيره و سلوكه. علوم الآخر أثرت ظاهراً على المظهر الخارجي لمحمود الأكرم و لم تؤثر على جوهره. و لكنه يظل تغيير حتى و إن كان سطحياً و خطوة إلى الأمام حتى و إن كانت خطوة واحدة فقط. لذلك استنكر التغيير الذي طرأ على على عويس كلياً، لأن الأب أو الجيل الأقدم درس في الجامعة و لم يعمل بالعلم و لم يؤمن به، هو فقط لديه المال و الوقت الكافيين لارتياد الجامعة، بسبب ذلك كان محمود الأكرم هو نقطة التحول الرئيسية في الأسرة اﻷكرمية بحكم أنه أول شخص من هذه الأسرة يتعلم تعليما جامعياً، و هي سابقة لم تحدث قبل في الأسرة الأكرمية و تبعه ابنه على عويس إلى الجامعة و اكتمل التغيير بذلك اكتمالاً تاماً. لأن على عويس ارتاد الجامعة من أجل التغيير للأفضل … التغيير الجذري و ليس االسطحي.
الصراع الأبدي الأزلي الجدلي المتجدد و المتطور و المتكيف مع مختلف الأجيال و الأحوال و الزمان و المكان يعبر عن نفسه هنا في هذا النص. القديم في هذا النص يرفض الجديد لسببين، السبب الأول هو لأن القديم مستفيد من الوضع الراهن و ثانياً لأنه يخاف المواجهة مع الجديد و لا يود للخرافة أن تنكشف و تنكشف معها أكاذيبه و جرائمه. المتمسك بما هو قديم لا يجرؤ على طرح الأسئلة، و يخفى خوفه تحت قناع السخرية و الاستخفاف بالقادمين الجدد و نعتهم بالأطفال الذين يمتطون مركبة الشيطان. تعبير لاهوتي إقصائي بامتياز. إذ أن كيف هم أطفالٌ عابثون من ناحية؟ و يمتطون مركبة الشيطان من ناحيةٍ أخرى؟! ذلك يدل على تضارب انفعالات محمود الأكرم و رجال الطريقة. هذا التضارب هو الدليل الأوضح على خطورة القادمين الجدد، و استخدام مثل هذه التشبيهات الخطرة يعطي الطريقة و رجالها حق الدفاع عنها لأنهم يخوضون صراع من أجل البقاء و لذلك ربط محمود الأكرم وجود الحارة بوجود الطريقة فلولاها لم تكن.
التقليدي يردد شيئاً لا يؤمن به و لا يفقهه لأنه يتغنى بالحلم و الحب و احتواء الأطفال العابثين لأن تلك هي الصورة الدعائية النمطية المقدسة التي تدر أرباحاً طائلة على الطريقة الأكرمية و المستفيدين منها. و لكن في الوقت نفسه و في الخفاء ستكون هناك محاولاتٌ فعلية للوشاية بالقادمين الجدد لدى الشرطة أو حتى تصفيتهم. و هو عكس ما يتغنون به في أدبيات الطريقة. الخطورة تكمن هنا في البحث عن الحقيقة إذ أنَّ لا شيء يزعج التيار التقليدي سوى البحث عن الحقيقة. بالرغم من أنها مجرد محاولة للبحث و معرضة للفشل كما أنها معرضة للنجاح، و لكنها تصيب التيار التقليدي بالذعر ﻷنه قائم على تمويه الحقيقة و تزييفها و تحريفها و أحياناً تلفيقها بما يتناسب مع هوى و مصلحة التيار التقليدي. تواصل المحاولات المستميتة للتيار التقليدي في الدفاع عن النفس و المصلحة لدرجة تأليف “حقيقة” جديدة أو طمس أخرى لتخدم مرحلة معينة أو لدرء الشبهات. لذلك أي محاولة و لو عابثة للبحث عما هو حقيقي لا عما هو تقليدي أياًّ كانت ماهية هذا الحقيقي فهي تشكل خطراً فعلياً على التيار التقليدي برمته، و لا يمكن للباحث عن الحقيقة أن يمارس محاولات أقل صدامية لأن المحاولة المجردة حتى من هدف الوصول إلى الحقيقة هي تفعيلٌ للعقل و إمعانٌ للتفكير العميق المؤدي بطبيعة الحال إلى نتائج عكسية لا تصب في مصلحة التيار التقليدي.
يظهر هنا التيار التقليدي بأنه تيارٌ بائد كأنه جسدٌ قوي يحمل أسباب موته بداخله. هذه هي طبيعة تكوين التيار التقليدي و إن كان الحافز المستفز (القادمين الجدد) من خارج هذا الجسد. أولاً محمود الأ كرم تلاحقه فضائح الطريقة هو و كل أفراد أسرته و قلب الهجوم (علي عويس) على الطريقة الأكرمية هو ابن غير شرعي لمحمود الأكرم، عبارة عن ثمرة الخطيئة السابقة و ظلت هذه الثمرة تنمو حتى كانت نهاية الطريقة على يدها. ثانياً الشيوخ الثلاثة الباحثين. الشيخ أبو كبير و الشيخ الدرملي و الشيخ أبو العلا. المريدين السابقين الذين تم تربيتهم في كنف الطريقة و بعد ذلك أصبح لديهم تساؤلات و من ثمة أبحاث و مخطوطات قامت بفضح الطريقة الأكرمية.
يدرك محمود الأكرم موقف العلم (علي عويس) ابنه الغير شرعي بعد أن اعترف به ضمناً و صار يخشى كبار رجالات الطريقة المستفيدين مادياًّ و معنوياً من (المصرف\المعبد) و الذين لا يتنازلون عن امتيازاتهم التي سيخوضون من أجلها حرباً طاحنة في سبيل حمايتها. يخاف محمود الأكرم أيضاً من المريدين ممن لا يريدون الحقيقة بل يريدون الاستغراق في الوهم و الذين سيتعاملون معه على اعتبار أنه مارق مرتد أو مجنون و هنا تكمن صعوبة و خطورة الموقف و اتخاذ القرار و هنا لا يوجد قرار سليم كلياً لأن المسألة ليست مسألة حسابية بسيطة و لكنها معضلة أخلاقية مركبة و متشابكة مع المصالح و لا بد من مواجهة الموقف و اتخاذ القرار. لذلك قالت زينب عويس :”ولكن النزاع لن ينتهي في حارتنا”. فقال الشيخ محمود الأكرم:”بلى، و لكننا سنكون في الموقع الأفضل”.
الصراع لن ينتهي لاختلاف وجهات النظر، و لأن الإنسان منذ بداية الخليقة في صراع من أجل البقاء فهو يسعى لما هو تقليدي و مجرب و مكرر لكي يشعر بالأمان من دون أن ينسى غايته الأساسية و هي أن يكون في الموقع الأفضل، و هذه هي نقطة الخلاف بين البشر على تحديد ما هو الموقع الأفضل بين التقليد و المعنى الجوهري لكل شيء، بين المصلحة الشخصية و المصلحة العامة، بين النص و محتوى النص، و لطالما عجبت لمفهوم العادات و التقاليد و لخضوع الإنسان لها، إذ كيف يخضع هذا الكائن الخارق للعادة للعادة؟! كيف يتكيف هذا الكائن الغير تقليدي للتقاليد؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى