حروب “اسرائيل” التي لا تنتهي.. بقلم: رزان أكرم زعيتر
- رزان أكرم زعيتر
على مدار اكثر من 100 يوم، لمس العالم حجم الكارثة الإنسانية التي تسبب بها الاحتلال وحلفائه والحصار الخانق الذي يفرضه على غزة، ومع أنه من المبكر جداً إصدار تقارير توثق الخسائر بدقة؛ إلا أن الصور والرسائل المصورة التي نقلها أهالي غزة أنفسهم من الميدان تشي بشكل أولي بحجم الخسائر وفداحتها لا كخسارة آنية يمكن تعويضها بل كسلسلة من الخسائر الممتدة التي يتعمد الاحتلال أن يصيبها إمعاناً في الإيذاء. أنه بعد انتهاء جولة “سيف القدس” في مايو/أيار 2021، وخلال 11 يوماً من الحرب، بلغ حجم خسائر القطاع الزراعي وحده في غزة نحو 200 مليون دولار.
لكن ماذا عن الضفة الغربية، التي أراد الاحتلال قطع صلتها بغزة، وذلك عبر محاصرتها أيضاً وتفتيتها بشبكة عضال من المستعمرات والطرق التي شقت المدن الفلسطينية وغيرت معالمها، إضافة للحواجز العسكرية، والبوابات الحديدية، وجدار الفصل العنصري، والبؤر الاستيطانية المنثورة بحماية جيش الاحتلال. علينا ألا نغفل كيف مر موسم القطاف الماضي على مزارعي الضفة الغربية، وكيف انفرد بهم المستعمرون المسلحون وجيش الاحتلال، وكيف وأطلقت الحكومة الإسرائيلية حملة مسعورة ضدهم. ليس أفضل من الأرقام لتظهر حقائق الحرب الموازية التي تشنها حكومة إسرائيل ضد القطاع الزراعي الفلسطيني.
تتحدث الأرقام الصادرة عن وزار الزراعة الفلسطينية عن 53 يوماً من موسم القطاف منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول ولغاية 1 ديسمبر/ كانون الأول 2023. في هذه الأيام الثلاث والخمسين، استغل الاحتلال بجيشه ومستعمريه انشغال العالم بحرب الإبادة التي يشنها على غزة وأعاقوا وصول المزارعين الى أراضيهم في الضفة الغربية ومنها الواقعة خلف جدار الفصل العنصري، بالترهيب لا عبر الجيش الصهيوني فحسب، بل أيضاً من خلال أذرعهم الاستعمارية والحركات الصهيونية المتطرفة التي دأبت على استهداف القرى وأراضي المزارعين، مثل حركة “فتيان التلال”، وحركة “نساء القبعات الخضراء” التي قامت لرفض اتفاقيات أوسلو وغيرها، فزادت وتيرة الاعتداءات بشكل ملحوظ خلال موسم القطاف في عام 2023. ووصل الأمر لارتقاء مزارعين منهم الشهيد المزارع بلال صالح من بلدة الساوية من قضاء نابلس، أثناء توجهه إلى أرضه لقطف الزيتون.
لقد اتخذت الاعتداءات الصهيونية كما رصدتها الحكومة الفلسطينية؛ أشكالاً متعددة منها حرق البساتين والمباني واقتلاع الأشجار، وسرقة وتدمير المحاصيل والمعدات والأعلاف، وجرف الأراضي والبنى التحتية الفلسطينية لإقامة 13,000 وحدة استيطانية جديدة، وحجب مصادر المياه وعزل الينابيع وتلويثها في القرى الفلسطينية، وتدمير البنية التحتية المائية والألواح الشمسية، بل ووصل الأمر الى الاستيلاء على الحيوانات كما حدث في طوباس عندما سرقوا 70 بقرة.
وعليه، بلغت خسائر الاعتداءات الإسرائيلية على القطاع الزراعي الفلسطيني خلال المدة المذكورة 22 مليون و 585,410 دولار، وتصدر القطاع النباتي وخاصة قطاع الزيتون قائمة الخسائر بنسبة بلغت 94%.
وللزيتون دائماً حكاية خاصة مع الفلسطينيين، وخسارتنا كبيرة فيه حيث عزل الاحتلال 82 ألف دونم مزروعة بالزيتون، أي أن 11% من بساتين الزيتون لم تُحصد عام 2023، حيث منع الاحتلال بجيشه ومستعمريه قطف 1,977,615 شجرة فيها؛ فخسر الاقتصاد الفلسطيني في الضفة الغربية جراء ذلك 11,541,740مليون دولار، تمثل 51% من خسائر القطاع الزراعي الفلسطيني في أقل من شهرين.
لقد شاهدنا في الايام الماضية ذلك الفيديو للجندي الإسرائيلي الذي مارس طقساً توراتياً بالنفخ بالبوق (الشوفار بالعبرية) أثناء اقتحام مدينة طولكرم، في إشارة رمزية لاحتلالها وبدء مرحلة جديدة. وقد سبقه لذلك الحاخام شلومو غوريون الذي نفخ في البوق على جبل سيناء عندما احتلها الجيش الصهيوني خلال العدوان الثلاثي عام 1956، وأيضاً عند تلة المغاربة في القدس عام 1967. ما فعله الجندي الإسرائيلي ليس ممارسة روحانية فردية، بل عمل ممنهج للكيان تجاه المحافظة التي تصدرت بحسب ارقام الحكومة الفلسطينية، قائمة المحافظات التي منيت بالخسائر الزراعية الأكبر خلال أقل من شهرين. والى خسائر طولكرم، فإن 7 محافظات أخرى تجاوزت خسائرها المليون دولار.
لهذه الأرقام مقاربة أخرى، لا سيما وأن الاحتلال يعتبر فترة القطاف صيداً ثميناً، لذلك يعيق دوماً وصول المزارعين الفلسطينيين إلى أراضيهم ويقوم بسرقتها وذلك عبر الترهيب وإطلاق الرصاص والاعتقالات التي توسعت في الضفة الغربية وأسفرت عن أسر 4,575 فلسطيني خلال شهرين. وعلى الرغم من قيام المستعمرين بتعليق رسائل ترهيب على الأشجار تتوعد المزارعين الفلسطينيين؛ بالقتل إلا أن الأهالي صمدوا واستكملوا موسم الحصاد حتى لا يفتحوا المجال أمام الاحتلال لمصادرة أراضيهم. وقد طاولت الاعتداءات في مدة قصيرة (53 يوماً) 6,809 مزارعاً، أكثر من 1,900 منهم في طولكرم، و1,700 في سلفيت، وأكثر من 1,000 في جنين.
هذه حرب حقيقية يخوضها أهلنا في الضفة الغربية الذين يتعرضون لترهيب وعسكرة المستعمرين الذين شبه أحد المسؤولين الصهاينة في تصريح لصحيفة “هارتس” العبرية، قيام الحكومة اليمينية المتطرفة بتوزيع السلاح عليهم بأنهم “يوزعون السلاح وكأنهم يوزعون حلوى”. لقد أطلق وزير الأمن القومي الصهيوني بن غفير، خطة منذ منتصف 2023، لتسليح نحو 400 ألف مستعمر في الضفة. وخلال شهرين منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، تم تسجيل أكثر من 250 ألف طلب لحيازة الأسلحة النارية، ومنحت موافقات لـ 86 ألفاً.
لكن مع كل التحديات وخطط “الترانسفير”، لم تتوقف مرابطة الأهالي عن حماية أراضيهم، وتكاتف الكثيرين لإنجاز موسم القطاف، وافتتاح موسم الزراعة 2023-2024. هذا الإلهام يمنحنا بلاشك المزيد من القوة لنستمر في “العربية لحماية الطبيعة” مع المزارعين الفلسطينيين في حماية أراضيهم من المصادرة بغرسها، وبالتوازي مع تكريس محتوانا لدعم المقاومة في غزة عبر حملات متواصلة لشرح وكشف جرائم الاحتلال باستعمال الغذاء سلاحاً ضد المدنيين الفلسطينيين ومواصلة حملة “المليون شجرة” التي نحن بانتظار انجاز مليونها الثالث قريباً والبدء بزراعة المليون الرابع من الأشجار المثمرة في كل أنحاء فلسطين، فكل شبر من فلسطين هو أرضنا، وكل شجرة ستستقبلنا يوم العودة إن شاء الله.
- رزان أكرم زعيتر، رئيسة الهيئة الإدارية للعربية لحماية الطبيعة ومؤسِسة الشبكة العربية للسيادة على الغذاء وعضو في اللجنة الفرعية للقضاء على الجوع في جامعة الدول العربية.