الإقتصاديموضوع مميز

باولا سوباتشي : ترامب يتلاعب بالتلاعب بالعملة

ترامب يتلاعب بالتلاعب بالعملة

 

 * د. باولا سوباتشي

نيويورك ــ نادرا ما عاد استخدام العملة كسلاح بالخير على الولايات المتحدة. وما علينا إلا أن نتذكر القرار الأحادي الذي اتخذته إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون في عام 1971 بإلغاء قابلية تحويل الدولار الأميركي دوليا إلى ذهب بشكل مباشر ــ وهو عنصر رئيسي في “صدمة نيكسون” التي زعزعت استقرار العملات المعومة وأدت إلى حالة من الركود المصحوب بالتضخم في وقت لاحق من عقد السبعينيات. لكن ذلك لم يمنع إدارة الرئيس دونالد ترمب من وصف الصين زورا بأنها دولة متلاعبة بالعملة.

 

دأبت الولايات المتحدة على اتهام الصين بالإبقاء على قيمة الرنمينبي منخفضة بشكل مصطنع، من أجل ضمان ميزة غير عادلة في التجارة الدولية. لكنها في عموم الأمر امتنعت عن اتخاذ إجراءات قاسية، وحتى صدور القرار الأخير، لم توظف مسمى “الدولة المتلاعبة بالعملة” منذ عام 1994. وحتى أثناء منتصف العقد الأول من القرن الحالي، عندما كان الرنمينبي يعتبر على نطاق واسع مقدرا بأقل من قيمته، اختارت إدارة الرئيس جورج دبليو بوش عدم استخدام ذلك اللقب، واكتفت بدلا من ذلك بملاحقة الحوار الاقتصادي الاستراتيجي الثنائي حول العملة وغير ذلك من القضايا الاقتصادية.

 

 

لكن انخفاض الرنمينبي مؤخرا إلى ما دون العتبة المهمة من الناحية نفسيا المقدرة بنحو 7 يوان مقابل الدولار لأول مرة منذ عام 2008 كان أكثر من أن تتحمله إدارة ترمب. وعلى هذا، ففي خطوة رمزية من شأنها أن تعمل على تصعيد الحرب التجارية الأميركية الجارية مع الصين، استخدمت وزارة الخزانة الأميركية ذلك التصنيف الرسمي.

 

 

ولكن ليس من الواضح على الإطلاق ما إذا كانت هذه التسمية لائقة حقا. إن أي دولة تعتبر متلاعبة بالعملة إذا تدخلت سلطتها النقدية لتصميم خفض قيمة العملة، من أجل تعزيز القدرة التنافسية العالمية لصادراتها. بيد أن تراجع الرنمينبي الأخير لم يكن نتيجة لتحرك سياسي.

 

 

في الوقت الحاضر، تحافظ الصين على نظام سعر الصرف المعوم المدار: حيث تتقلب قيمة الرنمينبي بحرية في نطاق 2%. ولكن لأن السلطات تعيد ضبط سعر الصرف يوميا، فإن فترة طويلة من الضعف تعمل تدريجيا على تحريك سعر الصرف إلى الأسفل، حتى لو كانت التحركات اليومية هامشية. هذا هو ما حدث هذا الأسبوع.

 

في حقيقة الأمر، وبعيدا عن التدخل لخفض قيمة الرنمينبي، كان بنك الشعب الصيني في السنوات الأخيرة حريصا على استخدام احتياطياته من النقد الأجنبي لدعمه. الفارق هذه المرة هو أنه اختار عدم التدخل، وبالتالي السماح للعملة بالانخفاض.

 

ربما كان القرار مدفوعا إلى حد كبير باعتزام الصين منذ فترة طويلة تحويل الرنمينبي إلى عملة دولية رئيسية تتسم بالسيولة وتتمتع بالقبول على نطاق واسع. ويدرك قادة الصين أن التدخلات المتكررة في السوق تتسبب في تقويض مصداقية الرنمينبي بين حاملي العملة من غير المقيمين. علاوة على ذلك، تأتي هذه التدخلات بتكلفة عالية. ففي الفترة 2015-2016، أدى دعم الرنمينبي إلى استنضاب احتياطيات النقد الأجنبي لدى الصين بنحو تريليون دولار أميركي.

 

لا يعني هذا أن الصين لن تتدخل بعد الآن. ففي نهاية المطاف، تمثل العملة الضعيفة مشكلة كبرى للصين ــ وهي الحقيقة التي يبدو أن إدارة ترمب عاجزة عن إدراكها. فمن خلال رفع تكلفة الواردات، قد يتسبب الرنمينبي الأضعف في إلحاق الضرر بالطلب المحلي الذي تحرص الصين على تعزيزه، كجزء من استراتيجيتها لتحويل نموذج النمو الاقتصادي بعيدا عن الصادرات.

 

 

علاوة على ذلك، ربما يشعل الرنمينبي الضعيف شرارة تدفقات رأس المال إلى الخارج، في وقت حيث يبلغ إجمالي الدين 300% من الناتج المحلي الإجمالي (وهو رقم بالغ الضخامة). في المقابل، من شأن الرنمينبي الأقوى والأكثر استقرارا أن يعمل على تخفيف تعرض الشركات الصينية وحكومات الأقاليم للديون، دون تعريض الاستقرار المالي للخطر.

 

لهذا، من المرجح أن يتدخل بنك الشعب الصيني إذا سجل الرنمينبي المزيد من الانخفاض. لكنه سيقوم بذلك وفقا لشروطه وليس لتلبية هدف محدد، ناهيك عن إرضاء الولايات المتحدة، التي ستستفيد رغم ذلك. في أوج حرب ترمب التجارية، وفي أعقاب خفض سعر الفائدة من قِبَل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، تحتاج الولايات المتحدة إلى أي زيادة في النمو.

 

ولكن حتى لو كانت تدخلات الصين مصممة للحد من انخفاض قيمة العملة، فربما تستخدم إدارة ترمب هذه التدخلات لتبرير تسمية الدولة المتلاعبة بالعملة. ويشير هذا إلى المعضلة التي خلقها ترمب لبقية العالم. فمن خلال التعامل مع التجارة الدولية على أنها مباراة محصلتها صِفر يستأثر فيها الفائز بكل شيء حيث تفرض الولايات المتحدة القواعد كما يحلو لها، أضعفت إدارة ترمب الحافز الذي قد يدفع الدول إلى الانخراط في ذلك النوع من التعاون السياسي الذي كان السمة المميزة للنظام الاقتصادي الدولي منذ الحرب العالمية الثانية. لماذا إذا ينبغي للصين أن تنحني للولايات المتحدة التي تعاملها على أنها عدو اقتصادي؟

 

 

من المؤكد أنه لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت وزارة الخزانة الأميركية دفعت سلفا بذلك النوع من الإجراءات الرسمية ــ التي تشمل صندوق النقد الدولي عادة ضد الصين التي كانت لترد عادة على الاتهامات الرسمية بالتلاعب بالعملة. والواقع أن سجل إدارة ترمب حافل بإطلاق تهديدات ضخمة ثم التراجع عنها (في حين تنسب لنفسها الفضل في تجنب الكارثة).

 

ولكن من خلال تصعيد التوترات وتأجيج حالة عدم اليقين، قد تخلف مواقف ترمب المتهورة عواقب وخيمة، حتى لو لم يصر عليها إلى النهاية. وهذه، في وقت يتسم بتباطؤ الاقتصاد العالمي، مجازفة لا ينبغي لأحد أن يكون على استعداد لخوضها.

 

——————————————————————

ترجمة: إبراهيم محمد علي        

 

——————————————————- 

باولا سوباتشي أستاذة الاقتصاد الدولي في معهد السياسة العالمية التابع لجامعة كوين ماري في لندن، ومن مؤلفاتها كتاب “أموال الشعب: كيف تبني الصين عُملة عالمية“.


————————————-

@حقوق الملكية بالعربية حصريا لـ جريدة برواز الالكترونية 

 

projectsyndicate@ 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى