إدواردو كامبانيلا : الأغلبية الصامتة في الثورة الرقمية

الأغلبية الصامتة في الثورة الرقمية
بقلم : * إدواردو كامبانيلا
ميلانو ــ يمكن أن تحمل الإحصائيات حقائق قاسية في بعض الأحيان. فمثلا، يقال لنا باستمرار إن الابتكار التكنولوجي يحدث بوتيرة أسرع من أي وقت مضى، لكن مع ذلك، تشير البيانات الواردة عن ما يسمى بالثورة الصناعية الرابعة إلى أنها بعيدة كل البعد عن أن تتصف بالثورية. ففي الاقتصادات المتقدمة، يعتبر معدل نمو الإنتاجية في الوقت الحالي هو الأبطأ منذ خمسين عاما.
غالبا ما تعزى “مفارقة الإنتاجية” هذه إلى مشاكل القياس أو فترات التباطؤ التي تظهر بعد اعتماد تكنولوجيات جديدة تطغى على ما قبلها. ولكن هناك تفسيرا آخر محتملا، وهو أن المناقشات العامة حول الاتجاهات التكنولوجية عادة ما تخضع لسيطرة الشركات ورجال الأعمال الذين يحددون ملامحها. أما أصوات الغالبية العظمى من الشركات التي تكافح لمواكبة التغير التكنولوجي (أو تقاومه على نحو فعال) فهي تذهب أدراج الرياح.
إن إدراك هذا المنظور، الذي لا يحظى بالقدر الكافي من التمثيل، ضروري لفهم السبب وراء عدم ظهور تأثير الثورة الرقمية في تلك البيانات، ولماذا قد يتأخر ظهوره لأكثر من ذلك. ببساطة، تميل الأحاديث الرنانة إلى الاعتماد على التعميمات المتحيزة. وعلى الرغم من المكانة التي يحتلها الذكاء الاصطناعي، والتعلم الآلي، والبيانات الضخمة، والروبوتات الشبيهة بالبشر في أذهان وتصورات العامة، فإن هذه المجالات التكنولوجية تقع ضمن نطاق تخصص حفنة صغيرة من الشركات فقط. كما أن الاهتمام الذي تحظى به لا يتناسب مع حجم تنميتها واعتمادها إلى حد كبير. وكما قال دان آريلي من جامعة ديوك في عام 2013 مازحا، فإن “البيانات الضخمة مثل الجنس في سن المراهقة: كلهم يتحدثون عنه، ولا أحد يعرف حقا كيفية ممارسته، لكنهم يعتقدون أن جميع أقرانهم يمارسونه، لذلك يدعون جميعا أنهم يمارسونه”.
من السهل تمييز هذه الديناميكية. يسعى الصحفيون وراء القصص المثيرة. ويبحث المستثمرون عن عوائد جذابة. ويحاول المستهلكون التنبؤ بالاتجاهات التكنولوجية القادمة. ثم تعمل الشبكات الاجتماعية ووسائل الإعلام العالمية والمؤتمرات الدولية على تضخيم أصوات الداعين إلى التغيير، الذين لديهم مصلحة في تضخيم احتمالات نجاح أعمالهم الخاصة. ومع توالي المعلومات، تزداد صفوف المؤمنين بهم، وتصبح الشائعات هي القاعدة.
لنأخذ في الاعتبار أحدث تقرير سنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي حول اتجاهات سوق العمل الناشئة، والذي يستند إلى دراسة استقصائية عن الشركات الكبيرة متعددة الجنسيات. يزعم التقرير أنه بحلول عام 2022، ستؤدي الزيادة الكبيرة في الاستثمارات في التعلم الآلي، وتحليل البيانات، واستحداث مواد جديدة، والحوسبة الكمية إلى زيادة الطلب على علماء البيانات، ومتخصصي الذكاء الاصطناعى، ومهندسي الروبوتات، على حساب المهن الحالية.
لكن المشكلة هي أن عينة السكان التي يعتمد عليها المنتدى الاقتصادي العالمي لا تمثل الاقتصاد الحقيقي. ففي جميع بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، تمثل الشركات التي توظف أكثر من 250 عاملا 7٪ فقط من مجموع الشركات النشطة، ويعمل بها أقل من 40٪ من القوى العاملة. وبينما يعترف واضعو التقرير بهذا الانحياز الإحصائي، فإن استنتاجاتهم لا تزال تشكل تعميمات خطيرة. حيث إن توقعاتهم لوظائف المستقبل لا علاقة لها باحتياجات العمالة الضرورية بالنسبة للغالبية العظمى من الشركات الصغيرة والمتوسطة، والتي لا تزال تعمل في إطار الثورة الصناعية الثالثة.
وعلى نحو مماثل، وجدت دراسة أجرتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن الفجوة في إنتاجية العمل بين الشركات التكنولوجية الرائدة وجميع الشركات الأخرى قد اتسعت بشكل حاد خلال العقد الماضي. حيث تظل العديد من التكنولوجيات المتقدمة التي نسمع عنها كثيرا في وسائل الإعلام غير مستغلة من قبل مجموعة لا يستهان بها من الشركات، مما يوحي بأننا سننتظر وقتا طويلا قبل أن تبدأ حتى أكثر الابتكارات ثورية في دفع الناتج المحلي الإجمالي.
قيل سابقا إن التكنولوجيا ذات الأغراض العامة مثل الكهرباء والكمبيوتر الشخصي تميل إلى زيادة الإنتاجية، ليس على الفور، ولكن بعد حوالي 25 عاما من ظهورها. ومع ذلك، فقد مر 32 عاما منذ لاحظ الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل، روبرت سولو، أنه “يمكننا رؤية عصر الكمبيوتر في كل مكان ماعدا إحصاءات الإنتاجية”، وما زلنا لا نرى عصر الكمبيوتر في إحصاءات الإنتاجية. فلماذا يجب أن تختلف نتائج تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي عن الكمبيوتر الشخصي في هذا الصدد؟
إن تجاهل هذا المنظور (تأخر إنتاجية التكنولوجيا) قد يخلف تأثيرات بعيدة المدى على السياسات، خاصة إذا كانت نزعة المغالاة في تحسين صورة التكنولوجيا (أو المبالغة في التحذير من أضرارها) تصرف الانتباه عن المشكلات الملحة التي تواجه أنظمة التعليم وأسواق العمل في الوقت الحالي. وإذا بدأت الحكومات في تخصيص المزيد من الموارد لتدريب نخبة المستقبل من المحترفين ذوي المهارة العالية، فهذا من شأنه أن يعمق حالة التفاوت الطبقي في الوقت الحاضر.
بطبيعة الحال، قد يتجاهل الهازئون تظلمات “الخاسرين”، على اعتبار أنهم ليس لديهم ما يضيفونه إلى المناقشات الدائرة حول التكنولوجيا: ففي أفضل الأحوال، سوف يشغلون الفراغات التي أوجدتها لهم الطليعة الرقمية؛ وفي أسوأ الأحوال، ربما يضطرون إلى الخروج من سوق العمل تماما. لكن تجدر الإشارة إلى أن الشركات الأصغر، حتى لو واجهت صعوبات اقتصادية، لا تزال لديها القوة السياسية للضغط من أجل تنظيم أكثر صرامة للتكنولوجيات الجديدة التي تهدد وجودها.
يدرك عملاق عالمي مثل أوبر هذا الأمر جيدا. حيث واجه على مر السنين مقاومة قوية من مجموعات صغيرة ومنظمة جيدا من سائقي سيارات الأجرة الذين لم تتم دعوتهم أبدا لحضور تجمعات النخب العالمية للتأمل في المزايا الاقتصادية لهذه المنصة. وعلى نفس المنوال، فإن هؤلاء الذين تم تجاهلهم في مختلف الاقتصادات المتقدمة في العالم يثأرون الآن لأنفسهم من خلال جلب الأحزاب المناهضة للتجارة والسياسيين الشعبويين إلى السلطة.
لكي نتجنب حدوث رد فعل أسوأ، ولكي نضع تقديرا أفضل لما تستلزمه الثورة الصناعية الرابعة على أرض الواقع، علينا أن نفهم مواقف جميع الشركات – وليس فقط تلك التي تحتل القمة – فيما يتعلق باضطرابات اليوم. حيث يتطلب التحول التكنولوجي المستدام وجود منافع يجري تقاسمها على نطاق واسع، مما يعني أن مساعدة المتأخرين على التأقلم لا تقل أهمية عن تمكين المبتكرين من النمو والازدهار. ويجب أن تكون أصوات الـمُعَطَّلين مسموعة.
ترجمة: معاذ حجاج
———————————————
* إدواردو كامبانيلا زميل مؤسسة مستقبل العالم في مركز حوكمة التغيير بجامعة آي إي في مدريد.



