مقالات

هل نجحت اسرائيل في إستعادة قوة الردع؟

لماذا أطلقت الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية تحذيرًا علنيًا بأن «صورة الردع الإسرائيلية تتهشم»؟ 

الكاتب : عصمت منصور*- فلسطين

ليلة التاسع من مايو/ آيار الماضي، نفذ سلاح الجو الإسرائيلي عملية اغتيال تجاه ثلاثة من قادة حركة الجهاد الإسلامي من الجناحين العسكري والسياسي، في عملية متزامنة، كانت بمثابة رد على القصف الذي نفذته الحركة ضد مستوطنات غلاف غزة قبل أيام من الاغتيال، ومحاولة لترميم صورة الردع الإسرائيلية، طبقًا لتصريحات وزير أمن الإحتلال  يؤاف جالنت بعد عملية الاغتيال مباشرة.

وقد وصفت تلك العملية بالناجحة استخباراتيًا وأمنيًا حققت لاسرائيل أهدافها كاملة منذ اللحظة الأولى لتنفيذها، أو بمجرد الأقدام عليها، إذ أنها كسرت الشعور السائد لدى شركاء بنيامين نتنياهو في الائتلاف وقطاعات واسعة من اليمين وسكان مستوطنات الغلاف المحيط بقطاع غزة، بأن الحكومة تتهيب فتح مواجهة مع فصائل المقاومة، اوالعودة إلى سياسة الاغتيالات، خشية فتح جبهة قتال جديدة قد تمتد لتطال ساحات مواجهة اخرى، كما حدث عند إطلاق 34 صاروخًا من الأراضي البنانية ضد مستوطنات الشمال في السادس من ابريل/نيسان من العام الحالي.

تكرار عمليات إطلاق الصواريخ من قطاع غزة وجنوب لبنان، وعدم الأقدام على عملية رد رادعة ضد فصائل المقاومة وقادتها في غزة، كذلك دعا وزير الأمن الوطني الإسرائيلي المتشدد ايتمار بن غفير، الذي علق مشاركته هو وأعضاء كتلته في الكنيست، في التصويت إلى جانب الحكومة ومقاطعة جلساتها، مع تهديده بالخروج من الائتلاف، على هذه الخلفية، زادت من الشعور بتآكل قوة الردع الاسرائيلية، خاصة مع تنامي خطاب هجومي مليء بالتحدي، اخذ في التزايد من قبل فصائل المقاومة ومحورها المتحالف مع ايران، والذي يتوعد بفتح جبهة متعددة الساحات في مواجهة اسرائيل وسياساتها العدوانية ضد الأقصى أو إذا ما استهدفت قادة المقاوة وهو ما بات يعرف بـ وحدة الساحات.

الأزمة الإسرائيلية الداخلية المتفاقمة، التي قادت إلى إندلاع مظاهرات شارك فيها مئات الآلاف من الاسرائيليين، في أضخم وأوسع حملة احتجاج ورفض ضد برنامج الحكومة اليمينية المحافظة التي شكلها تنتنياهو مع أحزاب يمينية دينية وقومية متطرفة، والتي اثارتها سلسلة الإصلاحات القضائية التي هددت بأضعاف منظومة القضاء او الانقلاب القضائي كما يصفها معارضوها، طالت هي الأخرى أذرع الأمن وخاصة جيش الاحتياط في وحدات قتالية وسلاح الطيران وقطاع السايبر.

بجانب أثرها على الإقتصاد، ووحدة الجبهة الداخلية الاسرائيلية ومناعتها وثقتها بالمستوى السياسي، شكلت واحدة من العوامل التي أوحت لمحور المقاومة بأن الفرصة مؤاتية لتعديل ميزان الردع، واستغلال الحالة التي تمر بها اسرائيل داخليًا، وتردي علاقة حكومتها مع أهم حلفائها الولايات المتحدة التي لم تدع حتى اللحظة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو للقاء مع الرئيس الأمريكي جون بايدن في البيت الأبيض، ناهيك عن اصطفافها بشكل علني مع المتظاهرين ومطالبهم، وتحذيراتها العلنية من تداعيات الاصلاحات القضائية على العلاقة مع الولايات المتحدة ويهود العالم، كما انتقادها الصريح لتركيبة الحكومة اليمينية ووجود بعض الوزراء المتطرفين في مواقع حساسة بها، كلها عوامل ادت تنامي الشعور بتراجع استراتيجي في مكانة اسرائيل وقدرتها على المواجهة.

الهجوم على الجهاد الإسلامي لترميم الردع واستعادة تماسك الائتلاف

يعد إقدام إسرائيل على عملية الاغتيال ضد قادة الجهاد الإسلامي بمثابة استعادة لصورة الردع وفق ما نشره موقع اكتواليا، كما أن إختيار المنظومة الأمنية لحركة الجهاد الإسلامي وأن تكون هي المستهدفة في عملية الاغتيال المباغتة، ضمن لها عدة مكاسب حققتها بشكل فوري اهمها:
(الأول): تقديرها المسبق، أن هذا لن يعطي حركة حماس المسوغ الكافي للانضمام الى القتال، وبالتالي هذا سيمكنها من الاستفراد بحركة صغيرة وإمكانياتها اقل بكثير من حركة حماس، وهو ما سيعني بالضرورة  أن الجولة سيكون مداها الزمني قصير، ومدى الصواريخ فيها محدود، دون أن تمس العمق الإسرائيلي في وسط البلاد ومدن المركز.

(الثاني): إنطلقت المنظومة الأمنية والسياسية الإسرائيلية من افتراض ، مفاده أن دخول حركة الجهاد الإسلامي المعركة وحيدة، سيتكفل بأن يقلل من احتمال فتح جبهات اخرى، خاصة على الحدود الشمالية وفي الضفة  الغربية، بسبب المعلومات التي لديها بأن الصواريخ التي إنطلقت من جنوب لبنان أطلقتها جهات تتبع لحركة حماس.

هذه العوامل، جرى تلخيصها واستشفافها من قرار نتنياهو عدم  عقد جلسة خاصة للكابينيت الأمني والسياسي المصغر وأخذ مصادقته على عملية الاغتيال، وهو ما بررته المستشارة القانونية [] للحكومة بأنه جاء بناء على تقديرات استخباراتية تفيد بأن “الخطوة لن تقود إلى حرب شاملة أو عملية عسكرية طويلة الأمد” وفق موقع “واللا” الاسرائيلي.

المكاسب الإسرائيلية وميزان الردع

أولى المكاسب التي حققها نتنياهو من وراء عملية الاغتيال المباغتة، هي ترميم ائتلافه الحكومي واستعادة كتلة ايتمار بن غفير الذي أعلن أنه أنهى مقاطعته للتصويت مع الائتلاف وأنه سيعود للجلوس مجددًا على طاولة الحكومة.

هذا المكسب أعاد لنتنياهو صورته القيادية وسيطرته على الائتلاف الذي بدأ يتداعى من الداخل، دون الاعتقاد أنه كان عرضة للانهيار.

فيما دأب وزير الأمن الوطني ايتمار بن غفير على ممارسة سياستة التي يقوم من خلالها بانتقاد الحكومة من الداخل، وشدها أكثر وأكثر نحو اليمين ومقاطعتها جلساتها أو التصويت معها، وهي ممارسات بهتت صورة نتنياهو أمام جمهور المتشددين وأظهرته بمظهر الضعيف الذي يتهرب من المواجهة ويخضع باستمرار للابتزاز.

لقد انقلبت هذه الصورة رأسًا على عقب بعد العملية، إذا ظهر بن غفير بمظهر السياسي المراهق عديم التجربة والعجول الذي يتصرف بصبيانية ولا يثق بالمنظومة الأمنية، بينما ظهر نتنياهو بمظهر القيادي المحنك والصبور الذي يعد للعمليات بصمت ودون ضجيج ويقف خلف المنظومة الأمنية ويمنحها ثقته ولا يكبلها بل يطلق يدها بجرأة عندما تتطلب المصلحة العامة ذلك وعندما تنضج الظروف العملياتية والاستخباراتية والأمنية لذلك.

كذلك نجح نتنياهو في حرف الأنظار عن أزمة حكومته مع المعارضة التي جندت مئات الآلاف في الشوارع ضده وضد اصلاحاته القضائية، حيث خطفت العملية الأضواء عن موجة الاحتجاجات، وأعادت التذكير بالمخاطر التي تحدق باسرائيل، وهو ما أدى إلى استبدل جدول الأعمال الإعلامي والسياسي من التركيز على الداخل بجدول أعمال التركية الأمن والتهديدات الخارجية في مركزه.

الجانب الاستعراضي في عملية الاغتيال، والمهارة في القدرة على تنفيذها بشكل متزامن بما يتطلبه ذلك من اشهر من الاعداد وامتلاك منظومات تكنولوجية واستخباراتية وعملياتية متقدمة، وجهوزية عملياتية وقدرة على العمل المشترك بين كافة الوحدات، أعاد للجيش ومنظومة الأمن هيبتها، خاصة أن سلاح الطيران (شاركت 40 طائرة مقاتلة في تنفيذ الاغتيال) هو الذي نفذها وهو أكثر سلاح من اسلحة الجيش تأثر في موجة الاحتجاجات بعد أن اعلن عشرات الطيارين عن عدم استعدادهم للخدمة في حكومة “ديكتاتورية تسعى إلى القضاء على منظومة القضاء”.

في حين أن مجمل هذه المكاسب الامنية والسياسية والإعلامية التى تحققت في اللحظة الأولى من عملية الإغتيال، كانت مرهونة بعدم قدرة حركة الجهاد الإسلامي على الرد بشكل واسع وقوي، أو أن يكون ردها قصير المدى زمنيًا ومحدود المدى جغرافيا الغلاف دون ان يتسبب في وقوع خسائر بشرية.

رد الجهاد الإسلامي

بعد 36 ساعة من الترقب المشوب بالتوتر، وبعد أن أثبتت حركة الجهاد الاسلامي قدرتها على امتصاص الضربة وأنها لا تزال تحافظ على سيطرة كاملة على قواتها، ولديها قدرٌ عالٍ من ضبط النفس، وبعد ان اعادت ترتيب أوضاعها الميدانية ، جاء ردها منفردًا كما توقع نتنياهو ولكن قويًا ومنتظمًا.

ويعد التأخر في الرد وعدم الإنجرار وراء مخطط نتنياهو منح حركة الجهاد القدرة على استعادة زمام المبادرة، وهيأ لها الميدان لتقول كلمتها.

امتد القتال خمسة أيام وتخللته مفاجات عسكرية غير محسوبة مثل قدرة  صواريخ الجهاد على ضرب مدن المركز تل ابيب وجوش دان ومشارف القدس كما استطاعت أن توقع خسائر بشرية في مدينة رحوفوت في وسط البلاد (قتيلة واصابة مباشرة لمنزل)، وهو ما هدد بفقدان كافة المكاسب التي تحقق في الضربة المباغته الاولى.

النتائج: مزيد من تراجع قدرة الردع الإسرائيلية

تضمنت وثيقة وقف إطلاق النار التي عرضتها مصر على حركة الجهادج الاسلامي واسرائيل بندًا غامضًا ينص على “عدم استهداف الأفراد” وهو ما يحيل ضمنًا إلى التراجع عن سياسة الاغتيالات وفقدان نتنياهو  لأهم مكسب حققه في في هذه المعركة.

في حين إن إصرار حركة الجهاد الإسلامي، التي استطاعت أن تدير جولة القتال بالتوازي مع إدارتها لقناة التفاوض غير المباشرة، والوصول إلى تهدئة متفق عليها برعاية مصر والأمم المتحدة، اكسبها شعبية كبيرة في الشارع الفلسطيني، وجعلها تظهر ندًا في القتال إقليميًا واسرائيلياً.
المتابع للسلوك الاسرائيلي وتحذيرات الخبراء العسكريين الحاليين والقادة السابقين لأجهزة الأمن من إطالة أمد القتال، بكل ما ينطوي على من الخشية من وقوع خسائر بشرية، والأهم تزايد الضغط الشعبي على حركة حماس وهو ما قد يدفعها إلى الانخراط في المواجهة، بكل ما لهذا من خطورة في فتح جبهات جديدة وتوسع مدى وكثافة الصواريخ، يثبت ان الطرف الذي كان يسابق الزمن ويتصرف بحذر في غاراته على قطاع غزة، ويعيد التأكيد مرة تلو الاخرى انها لا تستهدف سوى حركة الجهاد حصرا، هي إسرائيل، وهو ما اعتبر نوعاً من الردع الذاتي، وان اسرائيل تصرفت كمردوعة بدل ان تستعيد الردع.

كما أن قدرة حركة الجهاد على ضرب مدن في مركز اسرائيل ثَبَّتَ معادلةً مفادها ان الاغتيال سيقابل بقصف المدن الكبرى، وهو ما يفقد سياسة الاغتيالات قدرتها على الردع، ناهيك عن التراجع الضمني عنها اسرائيليا في وثيقة وقف اطلاق النار.

نظرية الردع الإسرائيلية

ان تعريف مفهوم الردع في الادبيات الاسرائيلية كما حددته دراسة معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، والتي أجرت مسحًا لهذا المفهوم، منذ عهد العصابات الصهيونية وما قبل إنشاء اسرائيل، والذي عبر عنه القيادي في التيار التصحيحي اليميني زئيف جابوتنسكي وسكه في نظريته المشهورة “الجدار الحديدي” ومن ثم مساهمة دافيد بن غوريون اول رئيس وزراء ووزير امن اسرائيلي والذي يعد اب نظرية الامن الحديثة ومؤسس الجيش الإسرائيلي.

ومن جانبه صاغ بن غوريون عقيدة الجيش القتالية القائمة على ثلاثة أضلع هي الردع، الحسم، والاحباط المسبق”الإنذار”، وصولا إلى الوثيقة الاسراتيجية التي نشرت من قبل منظومة الأمن الإسرائيلية في 2015 [5] التي تشدد جميعها على “مركزية الردع” كمركب اساسي في نظرية الأمن الاسرائيلية.

ولا تعني نظرية الردع توقف جولة القتال بتوافقات أو تقصير أمد القتال كهدف بحد ذاته بل ” الاكتفاء بالتهديد لمنع العدو من تنفيذ عدوان” ودفع اي طرفٍ معادٍ لاسرائيل الى عدم المجازفة بتحديها، وان يبقى يشعر دوما أن الدخول في جولة قتال معها، لن تحقق له شيء، وبالمقابل ابقاء يدها (اسرائيل) طليقة، وحفظ تفوقها النوعي على كافة اعداءها مجتمعين، وهو ما دفع الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية الى اطلاق تحذير علني[6] بأن “صورة الردع الاسرائيلية تتهشم” امام اعدائها.
ان دراسة واستقراءالجولة الاخيرة من القتال بين اسرائيل وحزب الله، تثبت أن نظرية الردع في تراجع، وانها فقدت مضمونها، ذلك أن مجرد تجرأ (العدو وهو في هذه الحالة حركة الجهاد الاسلامي) على الرد او ابداء الاستعداد لتوجيه ضربات موجعة في العمق الإسرائيلي والابقاء على استعداداته للقتال مستقبلا يتنافى مع الفكرة الأساسية التي صاغتها منظومة الأمن الاسرائيلية وحاولت ان تمنع من خلالها خصومها من قتالها او الاستعداد ومراكمة عوامل القوة لقتالها.

*عصمت منصور كاتب وباحث فلسطيني متخصص في الشأن الاسرائيلي.

 

تنشر المقاله بالتعاون مع خدمة themfadhel.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى