الإقتصاديموضوع مميز

جوزيف ستيجليتز : لا مزيد من أنصاف الحلول بشأن ضرائب الشركات

 

           لا مزيد من أنصاف الحلول بشأن ضرائب الشركات

 

 

جوزيف ستيجليتز  *

 

نيويورك ــ في السنوات الأخيرة اكتسبت العولمة سمعة سيئة، ولسبب وجيه في كثير من الأحيان. لكن بعض المنتقدين، وخاصة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، يوجهون اللوم في الوجهة غير الصحيحة، فيستحضرون صورة زائفة حيث خدعت أوروبا والصين والدول النامية أميركا وحملتها على الدخول في صفقات سيئة، مما أدى إلى المعاناة التي يعيشها الأميركيون حاليا. وهو ادعاء سخيف: فأميركا ــ أو بالأحرى أميركا الشركات ــ هي التي كتبت قواعد العولمة في المقام الأول.

 

 

مع ذلك، لم يحظ جانب سام بشكل خاص من جوانب العولمة بالقدر الذي يستحقه من الاهتمام : التهرب من ضرائب الشركات. الواقع أن الشركات المتعددة الجنسيات قادرة بسهولة على نقل مقارها ومواقع إنتاجها إلى أي نطاق قضائي يفرض أقل الضرائب. وفي بعض الحالات، لا تحتاج حتى إلى نقل أنشطة الأعمال، لأنها تستطيع تغيير كيفية “تسجيل” دخولها على الورق.

 

 

على سبيل المثال، تستطيع شركة ستاربكس أن تستمر في التوسع في المملكة المتحدة في حين تسدد أقل القليل من الضرائب هناك، لأنها تدعي أن أرباحها متدنية للغاية هناك. ولكن إذا كان هذا صحيحا، فإن توسعها المستمر يصبح بلا معنى. فما الذي قد يجعلك تزيد من تواجدك إن لم يكن هناك أي ربح تجنيه من ذلك؟ من الواضح أن هناك أرباحا، لكنها تُـحَوَّل من المملكة المتحدة إلى مناطق حيث الضرائب أقل كثيرا في هيئة أتعاب أو رسوم امتياز أو غير ذلك من الرسوم.

 

 

أصبح هذا النوع من التهرب الضريبي شكلا من أشكال الفنون تتفوق فيه الشركات الأكثر براعة، مثل شركة أبل. والتكاليف الكلية المترتبة على مثل هذه الممارسات هائلة. فوفقا لصندوق النقد الدولي، تخسر الحكومات ما لا يقل عن 500 مليار دولار سنويا نتيجة لتحويل ضرائب الشركات. وتشير تقديرات جابرييل زوكمان من جامعة كاليفورنيا في بيركلي وزملائه إلى أن نحو 40% من الأرباح التي تحققها الشركات الأميركية المتعددة الجنسيات في الخارج يجري تحويلها إلى ملاذات ضريبية. في عام 2018، لم تدفع 60 من أكبر 500 شركة ــ بما في ذلك أمازون، ونيتفليكس، وجنرال موتورز ــ أي ضريبة أميركية، برغم أرباحها المشتركة المسجلة (على أساس عالمي) التي بلغت نحو 80 مليار دولار أميركي. وتخلف هذه الاتجاهات تأثيرا مدمرا على عائدات الضرائب الوطنية في حين تقوض الحس العام بالعدالة.

 

في أعقاب الأزمة المالية التي اندلعت عام 2008، عندما انزلقت دول عديدة إلى ضائقة مالية شديدة، ظهرت مطالبات متنامية بإعادة النظر في النظام العالمي المعمول به لفرض الضرائب على الشركات المتعددة الجنسيات. وكانت مبادرة “تآكل القاعدة وتحويل الأرباح” التابعة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بين الجهود الرئيسية التي بذلت في هذا الصدد، والتي حققت بالفعل فوائد كبيرة، فكبحت جماح بعض من أسوأ الممارسات، كتلك المرتبطة بإقراض شركة تابعة المال لشركة تابعة أخرى. ولكن كما تُظهِر البيانات، فإن الجهود الحالية ليست كافية على الإطلاق.

 

تكمن المشكلة الأساسية في أن هذه المبادرة لا تقدم سوى إصلاحات مختلطة للوضع الحالي المعيب جوهريا وغير القابل للإصلاح. فبموجب “نظام سعر التحويل” السائد، يمكن لشركتين تابعتين لنفس الشركة المتعددة الجنسيات تبادل السلع والخدمات عبر الحدود، ثم تقدير قيمة هذه التجارة على أساس تجاري صِرف عند تسجيل الدخل والأرباح لأغراض ضريبية. والسعر الذي تتوصل إليه مثل هذه الشركات هو الذي تزعم أنه قد يتأتى إذا جرى تبادل السلع والخدمات في سوق تنافسية.

 

لم يعمل هذا النظام على المستوى اللائق قَط، ولأسباب واضحة. فكيف للمرء أن يقدر قيمة سيارة بلا محرك، أو قيمة قميص دون أزرار؟ لا توجد أسعار على أساس تجاري بحت، ولا توجد أسواق تنافسية يمكن للشركة الرجوع إليها. وتصبح الأمور أكثر تعقيدا في قطاع الخدمات المتوسع: فكيف للمرء أن يقيم عملية إنتاجية دون الخدمات الإدارية التي يقدمها المقر الرئيسي؟

 

تنامت قدرة الشركات المتعددة الجنسيات على الاستفادة من نظام سعر التحويل، مع تزايد التجارة داخل الشركات، ومع توسع التجارة في الخدمات (وليس السلع)، ومع تنامي أهمية الملكية الفكرية، ومع تحسن قدرة الشركات على التلاعب بالنظام واستغلاله. والنتيجة: تحويل الأرباح على نطاق واسع عبر الحدود، والذي أدى إلى انخفاض الإيرادات الضريبية.

 

 

مما ينبئنا بالكثير أن الشركات الأميركية غير مسموح لها باستخدام تسعير التحويل لتخصيص الأرباح داخل الولايات المتحدة. ويستلزم هذا تسعير السلع بشكل متكرر عند عبورها حدود الولاية ثم عبورها مرة أخرى في الاتجاه المعاكس. بدلا من ذلك، يجري تخصيص أرباح الشركات الأميركية لولايات مختلفة على أساس نسقي، وفقا لعوامل مثل تشغيل العمالة، والمبيعات، والأصول داخل كل ولاية. وكما أظهرت اللجنة المستقلة لإصلاح ضرائب الشركات الدولية (وأنا أحد أعضائها) في إعلانها الأخير، فإن هذا النهج هو الوحيد الذي قد ينجح على مستوى عالمي.

 

 

من جانبها، تعتزم منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن تصدر قريبا اقتراحا رئيسيا ربما يحرك الإطار الحالي قليلا في هذا الاتجاه. ولكن إذا كانت التقارير حول هيئة هذا الإطار صحيحة، فإن هذا يعني أنه لن يكون كافيا. فإذا جرى اعتماده، فسوف يظل التعامل مع القسم الأكبر من دخل أي شركة قائما على نظام سعر التحويل، مع تخصيص “البقية المتبقية” فقط على أساس نسقي. والأساس المنطقي وراء هذا التقسيم غير واضح؛ وأفضل ما يمكن أن يُقال هو أن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تضفي القدسية على التدرجية.

 

 

في نهاية المطاف، تشمل أرباح الشركات المسجلة في كل المناطق تقريبا خصومات على تكلفة رأس المال والفائدة. وهذه “بقايا” ــ أرباح صافية” ــ تنشأ من العمليات المشتركة في إطار أنشطة عالمية متعددة الجنسيات. على سبيل المثال، بموجب قانون التخفيضات الضريبية والوظائف في الولايات المتحدة لعام 2017، تكون التكلفة الإجمالية للسلع الرأسمالية قابلة للخصم بالإضافة إلى بعض الفائدة، وهذا يسمح بأن يكون إجمالي الأرباح المسجلة أقل كثيرا من الأرباح الاقتصادية الحقيقية.

 

من الواضح نظرا لحجم المشكلة أننا في احتياج إلى ضريبة حد أدنى عالمية لإنهاء السباق الحالي إلى القاع (الذي لا تستفيد منه أي جهة سوى الشركات). لا يوجد من الأدلة ما يشير إلى أن خفض الضرائب على المستوى العالمي قد يقود إلى المزيد من الاستثمار. (بطبيعة الحال، إذا خفضت دولة ما ضرائبها نسبة إلى غيرها من الدول، فإنها قد “تسرق” بعض الاستثمار؛ لكن هذا النهج القائم على إفقار الجار لا يمكن تطبيقه على مستوى عالمي). يجب تحديد الحد الأدنى الضريبي العالمي بمعدل مماثل لمتوسط ضريبة الشركات الفعّال الحالي، والذي يبلغ نحو 25%. خلافا لذلك، فسوف تتقارب معدلات ضريبة الشركات العالمية الحالية حول الحد الأدنى، وبهذا ينتهي ما كان المقصود منه أن يكون إصلاحا لزيادة الحصيلة الضريبية على الشركات المتعددة الجنسيات إلى تحقيق التأثير المعاكس تماما.

 

إن العالم يواجه أزمات متعددة ــ بما في ذلك تغير المناخ، والتفاوت بين الناس، وتباطؤ النمو، وتدهور البنية الأساسية ــ ولا يمكن معالجة أي منها في غياب حكومات مزودة بموارد مالية جيدة. ولكن من المؤسف أن المقترحات الحالية لإصلاح الضرائب العالمية ليست كافية لتحقيق النتيجة المرغوبة. ويجب إرغام الشركات المتعددة الجنسيات على القيام بدورها.

 

——————————————————————–

ترجمة: إبراهيم محمد علي  

جوزيف ستيجليتز حائز على جائزة نوبل في علوم الاقتصاد، وهو أستاذ في جامعة كولومبيا وكبير خبراء الاقتصاد في معهد روزفلت. وأحدث مؤلفاته كتاب “الناس، والسلطة، والأرباح: رأسمالية تقدمية في عصر السخط“.

 

 


@حقوق النشر باللغة العربية لـ جريدة برواز الالكترونية 

projectsyndicate@

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى