الإقتصاديعلوم وتكنولوجياموضوع مميز

تيد كولي :الربط بين قمتي التكنولوجيا

الربط بين قمتي التكنولوجيا

تيدج كولي

لندن ــ يسلك كل من الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية مسار نمو صاعدا، في ظل ما يبشران به من إمكانية تحسين أنماط خبراتنا الحياتية، بل وإطالة أمد الحياة ذاتها. لكن قليلين فقط فكروا في طريقة لربط هاتين التقنيتين، اللتين تمثلان قمة ما توصلت إليه التكنولوجيا، بشكل متناغم يعالج التحديات الصحية والبيئية العالمية.

 

 

بالنظر في وتيرة التطورات الأخيرة التي شهدها المجالان، سنجد أن التكنولوجيا الحيوية تتحسن بمعدل عشرة أضعاف كل عام بحساب التكلفة والفائدة. فقد هبطت تكلفة فك شفرة الجينوم البشري من ثلاثة مليارات دولار أميركي في عام 2001 إلى حوالي ألف دولار اليوم، وأي عملية كانت تستغرق شهورا قبل عشرة أعوام يمكن الآن إنجازها في أقل من ساعة واحدة. بالمثل، تشير تقديرات شبكة الخدمات “برايس ووترهاوس كوبرز”، في ضوء التطورات الحالية، إلى أن مساهمة الذكاء الاصطناعي في الناتج العالمي قد تصل إلى 15.7 تريليون دولار بحلول عام 2030 ــ وهو ما يزيد عن مجموع الناتج الحالي للصين والهند.

 

 

لكن إن دلت تلك التوقعات على شيء، فإنما تدل على تهوينها من شأن الأثر الاقتصادي لهاتين التقنيتين. ففي نهاية الأمر، ستنتشر تطبيقات الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع للغاية وستصير جزءا لا يتجزأ من كل أوجه حياتنا اليومية، حتى أن مساهمتها في الناتج العالمي قد تتجاوز ثلاثة أو أربعة أضعاف مساهمة الإنترنت، التي تبلغ حصتها في الاقتصاد العالمي 50 تريليون دولار. فضلا عن ذلك، فإن الطبيعة المنعزلة للتحليلات الحالية تعني أن التقنيات الناتجة عن التوليف المحتمل بين الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية لم يُنظر فيها أو تُقدر تكلفتها الشاملة بصورة كاملة.

 

 

على سبيل المثال، تستطيع التقنيات المولفة معالجة معضلة صحية عالمية كالتبرع بالأعضاء. فوفقا لمنظمة الصحة العالمية، يبلغ متوسط عدد عمليات زرع الأعضاء المصمتة التي أجريت سنويا منذ عام 2008 نحو مائة ألف وثمانمائة عملية. لكن يوجد في الولايات المتحدة وحدها ما يقرب من 113 ألف شخص بانتظار عمليات زرع أعضاء تنقذ حياتهم، بينما يجري التخلص من آلاف الأعضاء الجيدة كل عام. ولسنوات طوال، ظلت الاختيارات محدودة أمام المحتاجين لعمليات زرع كلى، بين ضرورة إيجاد متبرع حي صالح بيولوجيا، أو الانتظار لظهور متبرع متوف مناسب في أقرب مستشفى للمريض.

 

 

لكن في ظل وجود عدد كاف من المرضى والمتبرعين المستعدين، تستطيع البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي تسهيل التوفيق بين الطرفين على نطاق أكبر بكثير من الذي يتيحه نظام التوفيق بين حالة فردية وأخرى، وذلك من خلال نظام التبرع القائم على إقران أو مزاوجة الكلى، حيث صار بوسع المرضى الآن توفير متبرع غير مناسب بيولوجيا والحصول على كلية في نفس الوقت، لقدرة الذكاء الاصطناعي على التوفيق بين المتبرعين والمستفيدين عبر مصفوفة ضخمة تربط المرضى بالمتبرعين. إن أي شخص يتقدم للتبرع بكلية ــ سواء لشخص يحبه أو حتى لغريب ــ يستطيع في الحقيقة أن يحدث تأثيرا تعاقبيا ممتدا ينقذ حياة عشرات الأشخاص لأنه قد يقدم الحل المتمثل في الحلقة المفقودة في سلسلة طويلة من عمليات الإقران أو المزاوجة بين الكلى.

 

 

منذ أن بدأ نظام مبادلة الكلى على هذا النحو في عام 2000، زُرعت كلى لنحو ستة آلاف شخص حصلوا عليها من متبرعين جرى تحديدهم بواسطة الخوارزميات. لكن هذا قد يكون فقط بداية لزرع الأعضاء عبر تسهيلات الذكاء الاصطناعي، القادر بالفعل على تحديد المتبرعين والمستفيدين المحتملين، وسيكون قادرا في المستقبل على تقديم بيانات أكثر ثراء عن المرضى، قد تشمل العوامل الأخلاقية والدينية، للمساعدة في قرارات تحديد التسلسل والفرز (أي تحديد أولوية وحاجة الشخص إلى الزرع قبل غيره).

 

 

أما العقبة الكبرى التي تمنع نماذج الذكاء الاصطناعي تلك من بلوغ كامل إمكاناتها فهي بيولوجية. فمن الناحية النظرية، تستطيع تطبيقات الذكاء الاصطناعي الاستفادة من مجموعات البيانات التي تضم كل المتبرعين بالأعضاء من الأحياء والأموات وكل المرضى في أنحاء العالم. أما عمليا، نجد أن هناك حدودا زمنية تقيد معظم عمليات إقران الأعضاء، لأن أعضاء المتبرعين الأموات تكون صالحة للزرع لمدة قصيرة، ولكي يُقرن بها مستفيدون، يجب أن يكونوا مقيمين بنطاق جغرافي يمكن الوصول إليه في الوقت المناسب.

 

 

لكن لحسن الطالع، تستطيع التكنولوجيا الحيوية التخليقية توسيع مجال عمليات الإقران الممكنة إلى حد كبير. إذ يلاحظ النمو السريع الذي تشهده سوق الأحياء التخليقية عالميا، ويُتوقع أن تتجاوز قيمتها 12.5 مليار دولار بحلول عام 2024، مما يعكس معدل نمو سنوي مركب نسبته 20%. ومع بروز تلك الصناعة الناشئة، تقوم بعض الشركات (وأنا شخصيا أستثمر حاليا في إحداها) حاليا باستكشاف طرق للحفاظ على الأعضاء، بل وتجديدها خارج الجسم، ربما لعدة أيام في درجة حرارة عادية. وقد يسهم هذا في مد المسافات التي يمكن نقل الأعضاء عبرها، مما يُفعّل التأثير الشبكي بزيادة حجم مجموعات البيانات التي يمكن أن تستفيد منها نماذج الذكاء الاصطناعي لإنتاج سلاسل من عمليات الإقران أكثر كفاءة.

 

 

عادة ما يستغرق الوصول بالتقنيات الحيوية إلى درجة الإتقان سنوات. لكن إذا نجحت تلك المستحدثات، يمكنها إحداث ثورة في مجالات واسعة من مجالات الصحة العامة، وما النظام العالمي للتبرع بالأعضاء إلا بداية.

 

 

غير أن لتقنيات اليوم الأكثر تطورا آثارا معنوية وأخلاقية بعيدة المدى. فهناك أسئلة أساسية لم تُعالج بصورة كافية، منها مثلا: كيف ستزن الخوارزميات احتياجات المرضى الفقراء والأغنياء وتقدرها؟ وهل سيكون من الأولى إرسال عضو متبرع إلى مريض بعيد ــ ربما في بلد آخر ــ تنخفض لديه خطورة رفض جسده للعضو المزروع، أم إلى مريض قريب ترتفع لديه قليلا تلك الخطورة؟

 

 

هذه أسئلة مهمة. لكني أعتقد أنه ينبغي لنا تفعيل تقنيات التوليف أولا، ثم نستقر بعد ذلك على الضوابط المناسبة. إن القدرة الكبيرة على التوفيق التي يمتاز بها الذكاء الاصطناعي تعني إمكانية إنقاذ ثماني أرواح بحصول كل منهم على عضو واحد من متبرع متوف. كما أن الابتكارات في مجال التكنولوجيا الحيوية قادرة على ضمان عدم إهدار الأعضاء. وكلما زادت سرعة تقدم تلك التقنيات، زاد عدد الأرواح التي يمكن إنقاذها.

 

 

يشهد الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية تطورا سريعا لما لهما من إمكانيات كبيرة بعيدة المدى. ومع تقدم هاتين التقنيتين، يتحتم علينا مواصلة البحث عن توليفات تقنية جديدة للاستفادة من إمكانياتها. وأشك في أننا قد ندرك مدى استخفافنا بإمكانيات هاتين التقنيتين طالما نظرنا في كل واحدة منهما على حدة.

 

 

—————————————-

ترجمة: أيمن السملاوي         

تيدج كولي رائد أعمال في مجاليّ التكنولوجيا والعقارات مقيم في لندن، وهو أيضا رجل أعمال وصاحب أعمال خيرية.


@حقوق النشر باللغه العربية لـ جريدة برواز الالكترونية 

@projectsyndicate

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى