اعتراف فرنسا بدولة فلسطين: خطوة رمزية أم تحوّل تاريخي؟

تُلقي تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأخيرة، بشأن اعتراف بلاده المحتمل بدولة فلسطين في يونيو القادم، بظلالها على المشهد السياسي، مثيرةً نقاشاً واسعاً في الأوساط الفرنسية والدولية حول أهمية هذه الخطوة وتوقيتها وتداعياتها المحتملة، في وقت تمر فيه القضية الفلسطينية بمنعطف تاريخي دقيق.
تحول في السياسة الفرنسية؟
تاريخياً، حافظت فرنسا، منذ عهد الجنرال ديغول، على سياسة خارجية حاولت الموازنة بين تأكيد أمن إسرائيل ودعم حقوق الشعب الفلسطيني، مع التأكيد المستمر على حل الدولتين كسبيل وحيد للسلام. إلا أن باريس كانت تربط الاعتراف الرسمي بالدولة الفلسطينية بضرورة التوصل أولاً إلى اتفاق سلام شامل بين الطرفين.
لكن نية ماكرون المعلنة، والتي جاءت بعد أكثر من عام ونصف على أحداث السابع من أكتوبر 2023 والحرب الإسرائيلية المدمرة على غزة، تمثل تحولاً جذرياً محتملاً، إن لم تكن قطيعة، مع هذا النهج التقليدي. ويرى محللون أن ماكرون قد يكون بصدد القيام بما لم يجرؤ عليه أي رئيس فرنسي سابق، في خطوة وصفتها صحيفة “لو فيغارو” بأنها تجاوز للحدود التي التزم بها أسلافه.
ورغم توضيح ماكرون لاحقاً بأن تصريحاته أُخذت من سياقها، وأنه ربط الاعتراف بخطوات متبادلة تشمل الاعتراف بإسرائيل من دول أخرى في إطار تطبيع أوسع، إلا أن مجرد طرح الاعتراف الفرنسي كخيار جاد يعكس ديناميكية جديدة في الموقف الفرنسي.
عقبات وتساؤلات جوهرية
على الرغم من أن الاعتراف بحد ذاته هو إجراء قانوني يمكن اتخاذه بقرار سيادي، يبرز المحللون عقبات عملية وقانونية وسياسية جدية أمام هذه الخطوة وتأثيرها الفعلي:
إشكالية الأرض والسلطة: يتساءل محللون عن حدود الدولة الفلسطينية التي سيتم الاعتراف بها، في ظل واقع الضفة الغربية الممزقة بالمستوطنات الإسرائيلية، والقدس التي تعتبرها إسرائيل عاصمتها الأبدية غير القابلة للتقسيم، وقطاع غزة الذي دمرته الحرب الإسرائيلية المستمرة؟ كما تُطرح تساؤلات حول شرعية وفعالية السلطة الفلسطينية الحالية بقيادة محمود عباس في ظل الانتقادات الموجهة لها.
قضية اللاجئين: يثير الاعتراف تساؤلاً حيوياً حول مصير اللاجئين الفلسطينيين (المقدر عددهم بنحو 5.8 مليون حسب الأونروا) وحقهم في العودة أو الحصول على جنسية الدولة المعترف بها، وهو أمر ترفضه إسرائيل بشكل قاطع.
الموقف الإسرائيلي: ترفض الحكومة الإسرائيلية الحالية برئاسة بنيامين نتنياهو بشكل معلن فكرة قيام دولة فلسطينية، وقد اعتمد الكنيست قراراً يؤكد هذا الرفض. ومن المؤكد أن أي اعتراف فرنسي سيزيد من توتر العلاقات بين باريس وتل أبيب، المتأزمة أصلاً.
أهمية رمزية ورسالة سياسية
يشير المحللون إلى أن الاعتراف، ورغم أهميته الرمزية الكبيرة، قد لا يغير الواقع الميداني بشكل فوري، خاصة في ظل استمرار الاحتلال الإسرائيلي وغياب ضغط دولي حقيقي، لا سيما من الولايات المتحدة. فالعديد من الدول (146 دولة) تعترف بالفعل بفلسطين، لكن ذلك لم يمنع استمرار الاستيطان والانتهاكات الإسرائيلية.
ومع ذلك، يؤكد محللون أن للاعتراف الفرنسي، حال حدوثه، أهمية رمزية وسياسية لا يمكن إنكارها. فهو:
سيبعث برسالة دعم قوية للقضية الفلسطينية وللرأي العام العربي.
قد يشجع دولاً أوروبية أخرى مترددة (مثل إسبانيا وإيرلندا والنرويج التي أقدمت مؤخراً على الاعتراف) على اتخاذ خطوات مماثلة، مما يزيد الزخم الدولي.
سيثير النقاش مجدداً حول مستقبل الأراضي الفلسطينية وحل الدولتين كضرورة سياسية وقانونية.
ويأتي هذا التطور المحتمل ليضع تصريحات ماكرون السابقة الداعمة لحل الدولتين، والتي كررها منذ عام 2017، في دائرة الفعل، بعد سنوات من التأكيد على أنه “الحل الوحيد الذي يسمح بسلام عادل ودائم”. ويبقى السؤال: هل قرر الرئيس الفرنسي فعلاً تحويل الأقوال إلى أفعال، أم أن الأمر لا يعدو كونه مناورة سياسية في ظل ظروف دولية معقدة؟ الإجابة تحملها الأسابيع القادمة.



