الإقتصاديموضوع مميز

كيف نمنع أزمة الديون السيادية التي تلوح في الأفق

 

بقلم د . جوزيف ستيجليتز ؛ حميد رشيد

نيويورك ــ بينما تستعر جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، يظل لزاما على أكثر من 100 دولة منخفضة ومتوسطة الدخل أن تسدد مجتمعة 130 مليار دولار أميركي من أقساط خدمة الديون هذا العام ــ نصفها تقريبا مستحق لدائنين من القطاع الخاص. ومع تعليق قدر كبير من النشاط الاقتصادي وانزلاق الإيرادات المالية إلى حالة من السقوط الحر، ستضطر العديد من البلدان إلى التخلف عن السداد. وسوف تسعى دول أخرى إلى تجميع الموارد الشحيحة للسداد للدائنين، مما يقلل من الإنفاق الصحي والاجتماعي الضروري. وسوف تلجأ دول أخرى إلى الاقتراض الإضافي، وإرجاء الأزمة إلى وقت لاحق، وهو ما يبدو أسهل كثيرا الآن بسبب تدفق السيولة من البنوك المركزية في مختلف أنحاء العالم.

 

من العقد الضائع في أميركا اللاتينية في ثمانينيات القرن العشرين إلى الأزمة اليونانية الأقرب إلى الزمن الحاضر، هناك وفرة من الذكريات المؤلمة حول ما قد يحدث عندما تعجز البلدان عن سداد دينها. إن حدوث أزمة ديون عالمية اليوم من شأنه أن يدفع الملايين من الناس إلى البطالة وأن يغذي عدم الاستقرار والعنف في مختلف أنحاء العالم. وسوف يسعى كثيرون إلى البحث عن وظائف في الخارج، وهو ما قد يؤدي إلى إرباك أنظمة مراقبة الحدود والهجرة في أوروبا وأميركا الشمالية. وأي أزمة هجرة مكلفة أخرى كفيلة بصرف الانتباه بعيدا عن الحاجة الملحة إلى معالجة تغير المناخ. وقد أصبحت حالات الطوارئ الإنسانية القاعدة الجديدة.

 

الواقع أن السيناريو الكابوس يمكن تجنبه إذا تحركنا الآن. من السهل أن نفهم أصول أزمة الديون التي تلوح في الأفق اليوم. بسبب التيسير الكمي، تضاعف الدين العام (سندات سيادية في الأغلب) المستحق على البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل إلى أكثر من ثلاثة أمثاله منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008. إن السندات السيادية أكثر خطورة من الديون “الرسمية” من المؤسسات المتعددة الأطراف ووكالات المساعدة في البلدان المتقدمة، لأن الدائنين يمكنهم التخلص منها في نزوة مفاجئة، مما يؤدي إلى انخفاض حاد في قيمة العملة وغير ذلك من الاضطرابات الاقتصادية البعيدة المدى.

 

في يونيو/حزيران من عام 2013، كنا قلقين من أن (الأسواق المالية القصيرة النظر، والتي تعمل مع حكومات قصيرة النظر) كانت (ترسي الأساس لأزمة الديون العالمية التالية). والآن جاء يوم الحساب. ففي شهر مارس/آذار الفائت، دعت الأمم المتحدة إلى تخفيف أعباء الديون المستحقة على البلدان الأقل نموا في العالم. كما قررت العديد من دول مجموعة العشرين وصندوق النقد الدولي تعليق خدمة الديون لهذا العام، ودعت الدائنين من القطاع الخاص إلى الاقتداء بها.

 

لم يكن من المستغرب أن تلقى هذه الدعوات آذانا صماء. على سبيل المثال، رفضت مجموعة عمل أفريقيا للدائنين من القطاع الخاص التي جرى تشكيلها حديثا فكرة تخفيف الديون بشكل متواضع ولكن على نطاق واسع لصالح الدول الفقيرة. ونتيجة لهذا، فإن قدرا كبيرا من الفوائد المترتبة على تخفيف أعباء الديون من جانب الدائنين الرسميين، إن لم يكن معظمها، سيذهب إلى الدائنين من القطاع الخاص غير الراغبين في تخفيف أعباء الديون على الإطلاق.

 

المحصلة هي أن دافعي الضرائب في البلدان الدائنة ستنتهي بهم الحال مرة أخرى إلى تحمل تكاليف إنقاذ المخاطرة المفرطة والإقراض غير الحكيم من قِـبَل جهات تنتمي إلى القطاع الخاص. السبيل الوحيد لتجنب هذه النتيجة يتلخص في وقف شامل للديون يشمل الدائنين من القطاع الخاص. ولكن بدون اتخاذ تدابير قوية من جانب الدول التي تكتب فيها عقود الدين، من غير المرجح أن يقبل الدائنون من القطاع الخاص مثل هذا الترتيب. ولهذا، يتعين على هذه الحكومات أن تستحضر مبادئ الضرورة والقوة القاهرة لفرض التجميد الشامل لخدمة الديون.

 

لكن التجميد لن يحل المشكلة الجهازية المتمثلة في المديونية المفرطة. ولهذا، فنحن في احتياج شديد إلى إعادة هيكلة الديون العميقة. يُـظـهِـر التاريخ أن إعادة الهيكلة بدرجة أقل مما ينبغي وفي وقت متأخر أكثر مما ينبغي بالنسبة إلى العديد من البلدان تمهد الساحة لأزمة أخرى. وقد أظهر نضال الأرجنتين الطويل لإعادة هيكلة ديونها في مواجهة دائنين متعنتين، وقصيري النظر، وعنيدين، وقساة القلوب ينتمون إلى القطاع الخاص أن فقرات العمل الجماعي المصممة لتسهيل إعادة الهيكلة ليست فعّـالة كما كان من المأمول.

 

في أكثر الأحيان، يعقب عمليات إعادة الهيكلة المنقوصة إعادة هيكلة أخرى في غضون خمس سنوات، في ظل معاناة هائلة من جانب أولئك في البلد المدين. وحتى الدائنون يخسرون في الأمد البعيد.

لحسن الحظ، هناك بديل غير مستغل بشكل كامل: إعادة شراء الديون السيادية الطوعية. تنتشر فكرة إعادة شراء الديون في عالم الشركات، وقد أثبتت فعاليتها سواء في أميركا اللاتينية في تسعينيات القرن العشرين أو في زمن أقرب إلى الحاضر في السياق اليوناني. وتتمتع هذه الممارسة بميزة تتمثل في تجنب الشروط القاسية التي تأتي عادة مع مقايضات الديون.

لابد أن يكون الهدف الرئيسي لبرنامج إعادة الشراء تخفيف أعباء الديون من خلال تأمين خصومات كبيرة (تقليم أصل الدين) على القيمة الاسمية للسندات السيادية، وتقليل التعرض للدائنين المعتادين على المخاطرة المنتمين إلى القطاع الخاص. لكن برنامج إعادة الشراء يمكن تصميمه أيضا لتعزيز أهداف الصحة والمناخ، من خلال اشتراط إنفاق المستفيدين للأموال التي كانت لتذهب لولا ذلك لخدمة الديون على إنشاء السلع العامة.

 

كما نوضح في ورقة بحثية حديثة نشرها مركز أبحاث السياسة الاقتصادية، من الممكن أن يتولى صندوق النقد الدولي إدارة مرفق متعدد الأطراف لإعادة الشراء، ويستطيع الصندوق استخدام الموارد المتاحة بالفعل، ووظيفة الترتيبات الجديدة للاقتراض، والأموال التكميلية من اتحاد عالمي من البلدان والمؤسسات المتعددة الأطراف. وبوسع البلدان التي لا تحتاج إلى كامل حصتها من حقوق السحب الخاصة، وحدة حساب صندوق النقد الدولي، أن تتبرع بها أو تقرضها للمرفق الجديد. ومن الممكن أن يوفر الإصدار الجديد من حقوق السحب الخاصة، التي تشتد إليها الحاجة بوضوح، موارد إضافية. ولضمان أقصى قدر من خفض الديون لنفقات بعينها، يستطيع صندوق النقد الدولي أن يدير مزادا علنيا، معلنا أنه سيعيد شراء كمية محدودة فقط من السندات.

 

في الأمد البعيد، سوف تنشأ الحاجة إلى آلية قائمة على القواعد يمكن التكهن بها، على غرار تشريع إفلاس البلديات في الولايات المتحدة (الفصل التاسع). وسوف يتماشى هذا مع توصيات لجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة المعنية بإصلاحات النظام النقدي والمالي الدولي بعد عام 2008.

يتلخص الاعتراض المعتاد على مثل هذه الاقتراحات في أنها ستدمر سوق الرأسمال الدولية. لكن التجربة تُـظـهِـر خلاف ذلك. فالمرء لا يستطيع أن يعتصر الصخر طلبا للماء. وسوف تحدث عمليات إعادة الهيكلة ــ والسؤال الوحيد هو ما إذا كانت لتعمل بشكل نظامي. وسوف تساعد مقترحاتنا في تحقيق هذا الهدف، وبالتالي تعزيز أسواق الرأسمال.

 

ولكن في نهاية المطاف، لا يجب أن يتركز اهتمامنا على صحة أسواق الرأسمال، بل على رفاهة الناس في البلدان النامية وبلدان الأسواق الناشئة. إن الحاجة ملحة إلى تخفيف الديون الآن، في خضم الجائحة. ولابد أن يكون تخفيف الديون شاملا ــ وأن يضم الدائنين من القطاع الخاص ــ وأكثر من مجرد وقف للديون. ونحن نملك الأدوات اللازمة للقيام بذلك. ولا نحتاج إلا إلى الإرادة السياسية.

 

 

   الآراء الواردة هنا هي آراء المؤلفين ولا تعكس آراء الأمم المتحدة أو بلدانها الأعضاء.

 

ترجمة: إبراهيم محمد علي          

جوزيف ستيجليتز حائز على جائزة نوبل في علوم الاقتصاد وأستاذ في جامعة كولومبيا، وهو كبير خبراء الاقتصاد في معهد روزفلت ونائب رئيس سابق وكبير خبراء الاقتصاد لدى البنك الدولي. أحدث مؤلفاته كتاب “الناس، والسلطة، والأرباح: رأسمالية تقدمية لعصر السخط” (بنجوين 2020). حميد رشيد المدير العام الأسبق للشؤون الاقتصادية المتعددة الأطراف في وزارة الخارجية في بنجلاديش، ويشغل حاليا منصب رئيس مراقبة الاقتصاد العالمي في إدارة الأمم المتحدة للشؤون الاقتصادية والاجتماعية.

 

@حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2020.

 

@جريدة برواز الالكترونية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى