الدكتور محمد الصياد يكتب: كيف تُحكَم الصين؟
بقلم ـ محمد الصياد:
حين كانت الصين، تسير، كما اعتقد الأمريكيون، على هدي الروشتة التي أرادوا أن تعمل بها بعد قرار انهاء حصارها سياسيًا واقتصاديًا الذي أوصت به مراكز الأبحاث والدراسات الأمريكية التي تقدم استشاراتها لمؤسسة الحكم في الولايات المتحدة: البنتاغون ووزارة الخارجية والبيت الأبيض. هو القرار الذي تم تنفيذه بالزيارة التاريخية التي قام بها إلى الصين الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون في شهر فبراير/شباط عام 1972، التقى خلالها مع الرئيس الصيني حينها ماو تسي تونغ كان الأمريكيون الذين يقودون النظام الرأسمالي العالمي، سعداء بحماس الصينيين للتعاطي مع مقاربتهم في التحرير الاقتصادي، فأغرقوا الصين برؤوس أموالهم وشركاتهم وماركاتهم التجارية، معوِّلين على إغراقها وإسقاطها في نهاية المطاف في شباك الصياد الرأسمالي الكبير. في الأثناء، كانت ماكنة البروباغاندا الإعلامية الأمريكية (وتابعاتها الأوروبية)، منضبطة (حسب الأوامر) ومتناغمة مع الخط الرسمي الداعم لسياسات اقتصاد السوق الصينية الجديدة التي اتخذت منعطفًا حاسمًا على ما بدا للأمريكيين، في عهد الزعيم الصيني دينغ شياو بنغ (1978-1992).
لم “تخذلهم” الصين، فقد أرخت حبائلها، وسايرتهم، بل وزايدت على تطبيقاتهم لعولمة الاقتصاد العالمي وكافة وحداته الإنتاجية واللوجستية. ووافقت على أقسى شروط قبول عضويتها في منطمة التجارة العالمية، في مفاوضات الانضمام (Accession process) الصعبة والمعقدة للغاية، التي استمرت زهاء 15 سنة انتهت بحصول الصين على عضوية المنظمة في عام 2001. فإذا بهم يتفاجأون بتخطي الاقتصاد الصيني للاقتصاد الأمريكي في اجمالي قيمة الناتج المحلي المحسوب وفقًا للقدرة الشرائية للنقد المحلي
(Purchasing Power Parity – PPP) مطلع عام 2014 بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي، وستتخطاه بالقيمة الاسمية في عام 2030.
هنا استفاق الأمريكيون، وبدأت ماكنة دعايتهم ضد الصين في الدوران، وبدأ التفكير في تحويل ثقل تواجدهم العسكري صوب آسيا. وبدأ الحديث في الصحافة الأمريكية والإنجليزية عن دكتاتورية النظام الصيني، وعن اضطهاده للأقليات، لا سيما أقلية الاويغور “Uyghurs” المسلمة في إقليم شينجيانغ الواقع في أقصى الشمال الغربي للصين، وأقلية التبت القاطنة في إقليم التبت الواقع في جنوب غرب الصين. وهما أقليتان من بين 55 أقلية عرقية واثنية تتمتع بالحكم الذاتي في إطار جمهورية الصين الشعبية.
في خلفية هذا الجنون المتمادي لاستعباد العالم واستلابه
تذهب رطانة خطاب المعسكر الغربي إلى أن نظامه الليبرالي هو أفضل الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة في العالم، وأكثرها تحضرًا. فالنخب الحاكمة في المجتمعات الغربية لا تريد الحروب، وإنما تريد السلام والأمن للجميع في العالم قاطبة. لهذا السبب، يتم دفعها دفعًا، وبصورة غير مريحة لزعاماتها، لكي تنهض بدورها كشرطي للعالم. فتجد نفسها بين الحين والآخر مكرهة على شن “حروب نبيلة” من أجل كبح غرائز الإبادة الجماعية والتعطش لسلطة الطغاة والمجانين.
هذه هي العقلية التي ما فتئت تحرك غرائز وشهوات تسلط وتنمر النخب الغربية الحاكمة، بدافع الاستحواذ الكامل على السلطة والمال في كافة أرجاء المعمورة، بنفس العقلية الاستعمارية التي تتبدل جلودها كما الأفعى مع تبدل الظروف والاستحقاقات. فهي تارةً ديمقراطية، وتارة فاشية، وتارة أخرى ليبرالية، وتارةً رابعة نازية. إنما في جذرها تحافظ على نقاء معدنها الاستعماري التليد.
نقلة نوعية في الصراع مع شي جين بينغ
في الرابع عشر من آذار/مارس 2013، انتخب مجلس نواب الشعب الصيني بأغلبية ساحقة (بموافقة 2996 عضوا من إجمالي عدد مندوبي الأقاليم البالغ 3000 مندوبًا)، شي جين بينغ رئيسًا لجمهورية الصين الشعبية خلفًا لـ هو جينتاو. وبعد أقل من ستة أشهر على انتخابه، وتحديدًا في شهر أيلول/سبتمبر 2013، كان شي جين بينغ يُعلن رسميًا من كازاخستان التي كان يزورها، عن استراتيجية تنموية عالمية أطلق عليها اسم “الحزام الاقتصادي لطريق الحرير” (Silk Road Economic Belt). على أساس أن “الحزام الواحد” يرمز إلى مكان كان يُعرف تاريخيًا بطريق الحرير القديم، وهو عبارة عن شبكة طرق تجارية تمر عبر جنوب آسيا لتربط الصين بدول جنوب وشرق آسيا والشرق الأوسط وصولًا إلى تركيا. فيما يشير “الحزام الاقتصادي لطريق الحرير” الجديد، إلى مشاريع الطرق البرية المقترحة للنقل البري والسكك الحديدية عبر آسيا الوسطى غير الساحلية على طول طرق التجارة التاريخية الشهيرة للمناطق الغربية. أما “الطريق الواحد” فيرمز إلى الطريق البحري المستلهم من رحلة بحرية قام بها الأدميرال “زينغ هه“، الذي أبحر بأسطول من السفن إلى أفريقيا في القرن الخامس عشر، ويعد رمزًا لأصالة القوة البحرية الصينية. وهو في المبادرة الصينية الجديدة، سيكون “طريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين”، في إشارة إلى الطرق البحرية بين المحيطين الهندي والهادئ عبر جنوب شرق آسيا، وصولًا إلى جنوب آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا.
تتضمن هذه المبادرة العالمية الطموحة، ضخ استثمارات هائلة في البنى التحتية للبلدان المشمولة بهذه المبادرة، الموانئ وناطحات السحاب والسكك الحديدية والطرق والجسور والمطارات والسدود ومحطات الطاقة وأنفاق السكك الحديدية، والممرات الاقتصادية التي ستربط أكثر من 60 بلدًا. في البر تتضمن المبادرة إنشاء ممر جديد يصل آسيا بأوروبا، بالتوازي مع تطوير ممرات اقتصادية تربط الدول الآسيوية بأوروبا. من هذه الممرات البرية المقترحة، ممر الشمال، من الصين إلى آسيا الوسطى، ثم إلى روسيا فأوروبا وصولًا إلى بحر البلطيق؛ وممر بري من الصين إلى الخليج العربي والبحر المتوسط، عبر وسط وغرب آسيا؛ وممر ثالث من الصين إلى جنوب وشرق آسيا، ومن ثم جنوب آسيا، وصولًا إلى المحيط الهندي. وتركز المبادرة بحرًا على تشبيك الموانئ الرئيسية. ومن ممرات المبادرة المقترحة في هذا الصدد، ممر يربط الموانئ الصينية بالمحيط الهادئ عبر بحر الصين الجنوبي، وآخر يربط الموانئ الصينية بأوروبا. وقد رصدت الصين مليارات الدولارات لتنفيذ هذه الخطة التنموية العالمية الكبرى.
ومع اتضاح جدية هذه الخطة الاقتصادية العالمية الكبرى، وبدء تنفيذ مشاريعها، وتسارع أعداد الدول الموقعة على اتفاقياتها، حيث بلغ عددها حتى أغسطس/آب 2022، 149 دولة، اندفع الغرب لتجهيز وتدوير مراجله فوق مصاطب حملته الدعائية الواسعة النطاق لشيطنة الصين ورئيسها، وتنفيذ خطة عملية لتقويض استقرار الصين وكبح اندفاعتها التنموية. وبلغت ضجة وسائل الإعلام الغربية ذروتها مع المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني (من 18 الى 24 أكتوبر/تشرين الأول 2017)، الذي أعاد انتخاب شي جين بينغ لولاية ثانية وتتويجه زعيمًا وطنيًا للصين. ومع ازدياد الحنق على النقاط التي تحرزها الصين في مجالات التنمية والقفزة التكنولوجية المفاجئة، يرتفع منسوب حملة الشيطنة. وكي يوصم بالدكتاتورية، فهو متهم بانتزاعه سلطات فاقت حتى تلك التي حازها مؤسس الصين الحديثة الزعيم ماو تسي تونغ، وإن “دكتاتوريته” امتدت للاقتصاد، فاختُرع له مصطلح “Xiconomics”، للغمز من قناة مد سلطاته على الاقتصاد أيضًا.
فالروايات الغربية المتحيزة، تتجاهل عن عمد الترتيبات والتدابير الجديدة التي أدخلها الصينيون على بنية وتراتبية نظامهم السياسي الحاكم. ولعل قصة صعود شي جين بينغ إلى أعلى قمة هرم السلطة في بلاده، ربما تكشف لنا عن ماهية الحكم الصيني اليوم.
من زعامة الفرد إلى القيادة الجماعية
فقد أدركت الصين بعد حقبة الزعيم ماو تسي تونغ، أن دكتاتورية الزعيم الأوحد المهيمن على كافة مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لن تعمر طويلًا ولن تصمد أمام موجات التطور المجتمعي والعالمي، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، المتواترة والسريعة. لذلك قررت القيادات الصينية للحزب الشيوعي الحاكم، اعتبارًا من عهد دنغ شياو بينغ الذي أطلق الثورة الصينية التنموية، التي تحصد الصين اليوم ثمارها، اعتماد مقاربة القيادة الجماعية الحقيقية القائمة على مبادئ النزاهة والإخلاص والجدارة. فتأسيسًا على ما توصل إليه دنغ شياو بينغ ورفاقه، من أن التجاوزات المدمرة التي شاعت إبان عهد ماو تسي تونغ، قد أكدت بوضوح أن القوة غير المقيّدة في القمة كانت شديدة الخطورة على صحة الأمة. لذلك فقد نهى دينغ عن أي شيء يمكن أن ينطوي على ممارسة عبادة الشخصية البغيظة، فيما خصه هو شخصيًا. وكان وجود الرعيل الأول من رجال الثورة، مثل تشين يون ولي زيانيان، يعني أن بكين لم يعد لديها حكم الرجل الواحد.
في وقت مبكر من حقبة ما بعد دينغ، استقرت الصين على نظام يتقاسم بموجبه رئيس الحزب الشيوعي السلطة مع زملائه في اللجنة الدائمة للمكتب السياسي (Politburo Standing Committee – PSC). بدأوا بإضفاء الطابع المؤسسي على الجدارة، وإحياء نموذج “امتحانات كيجو” (هو نظام امتحانات كان معمولًا به إبان العصر الامبراطوري للمتقدمين لوظائف الخدمة المدنية لغرض اختيار المرشحين لبيروقراطية الدولة). وبات الحزب الحاكم في الصين يستخدم معيار القدرة باعتباره المقياس النهائي لمدى ملاءمة المرشح للمنصب الرفيع. في أيامنا هذه، في العشرية الثالثة من القرن الحادي والعشرين، هذا يعني الخبرة والإنجازات في مجال الحكم. فكان أن أنتجت هذه السياسة قيادة حكومية تتمتع بسجل إنجازات أكثر ثراءً وإثارة للإعجاب مما هو ممكن بين نظرائها في أي نظام ديمقراطي.
وبوجود حوالي 85 مليون عضوًا في صفوفه، فإن الحزب الشيوعي نفسه هو أكبر من معظم الدول في العالم. لكن الاعلام الغربي السائد لا يعترف الا بمنظوره الدعائي القائل بأن “دكتاتورية الحزب الواحد” لا تعدو أن تكون في الواقع سوى مجموعة من العديد من الأجنحة، ذات المصالح المتنوعة والملتئمة تحت سقف واحد، وإن الاختلافات بين هذه الأجنحة أكبر وأكثر من تلك الموجودة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة على سبيل المثال. فبالنسبة للإعلام الغربي السائد، لا تعني تلك المناقشات المعمقة والدائمة داخل الأطر الحزبية، أي شيء على الإطلاق. فاهتمامه منصب حصرًا على تلطيخ السمعة لإيهام الرأي العام الداخلي والخارجي بأن الأنظمة السياسية الأوليغارشية السائدة في الغرب الرأسمالي هي الأفضل في العالم.
والحقيقة التي لا يحتملها الغربيون اليوم، هي أن أفضل أدمغة الحكم التي تناقش يوميا قضايا الأمة الصينية، هي التي تسهم في تحديد أفضل سياسات الحكم للبلاد قاطبة. لذا فليس من قبيل الصدفة أن الصين قد أنجزت في العقود الأخيرة ما يُعرف بشكل متزايد بأنه أكبر زيادة في رفاهية الإنسان في كل التاريخ.
هذه الآلية الحاكمة هي التي قررت، منذ حوالي عقد من الزمان، أن شي جين بينغ كان أفضل شخص يقود الصين إلى المرحلة التالية من قفزتها العظيمة من الحضيض التاريخي. على عكس الميثولوجيا الغربية والهوس الغربي، لم يصارع شي جين بينغ من أجل الاستيلاء على السلطة وهو في طريقه إلى القمة. لقد كانت الجدارة الصينية، التي تطورت على مدى عدة أجيال، هي التي قررت في اللحظة التاريخية وضعه هناك، بعد أن عبر المسار الطويل لأنظمة الفرز الخاصة بنظام النزاهة والجدارة الصيني.
لقد اختارت الجدارة شي جين بينغ للتعامل مع مهمة صعبة للغاية، تتكون من شقين: يتعلق الشق الأول منها بحل المشكلات الهائلة المتراكمة التي خلّفتها عقود من الإصلاح السريع، وهي الفساد المتفشي، والانضباط العسكري المتراخي، ومواجهة العداء المتصاعد ضد الصين من قبل الإمبراطورية الأمريكية؛ فيما يتعلق الشق الثاني من تلك المهمة البالغة العِظَم، بالارتقاء بالتنمية الصينية إلى المستوى الثاني من النهضة الشاملة. ولضمان حصوله على فرصة للنهوض بها، فقد منحته القيادة الجماعية أكبر قدر من السلطة منذ دنغ شياو بينغ.
وعلى ذلك، نلحظ ميلاً في بعض وسائط الإعلام البديل، الأمريكي والأوروبي (البديل للإعلام الموالي السائد Mainstream media)، لتوصيف الطبيعة الراهنة للنظام السياسي الصيني، على أنه نظام الجدارة والكفاءة “Meritocracy”، وهو نظام يعتمد في تحقيق أهدافه على القدرة والعطاء الفردي. فهو بهذا المعنى -وفقًا لمنظور هؤلاء المتخصصين في علم السياسة الدولية، وجلهم من المحسوبين على اليسار الأمريكي والأوروبي الليبرالي- نظام حكم أهل الكفاءة، أو نظام حكم بالاستحقاق. لكن هذا لا يزيل عنه بطبيعة الحال صفة حكم النخبة. فإذا كان، كما يقال، نظام حكم بالجدارة، فلابد وأن يكون، والحال هذه، حكمًا يمكن وصفه بالجديروقراطية. فالجدارة هنا قرينة، حكمًا، بالبيروقراطية. فهي، أي الجدارة، تنصرف لاختيار النظام (أو الحزب أو المجتمع)، للأشخاص ونقلهم إلى مناصب النجاح والسلطة والتأثير، على أساس قدراتهم واستحقاقاتهم الظاهرة. وهذا يعني أن النخبة فقط، من تلك الصفوة الجديرة، هي التي تتمتع بفرصة تحقيق الذات في بوتقة جهاز التسيير البيروقراطي الكلي.
الآن، هل هذا كل شيء؟ كلا بطبيعة الحال. فتوصيف النظام السياسي الصيني على أنه نظام حكم بالجدارة والكفاءة، حتى وإن بدا موضوعيًا، في الشكل على الأقل قبل المضمون، إلا أنه ليس مقنعًا بما فيه الكفاية لتجاوز “أقاويل” – أو بروباغاندا إن شئتم – وسائط الميديا الغربية التي تصر على وصم عهد شي جين بينغ، بالسلطوي والدكتاتوري. ربما كان هذا التوصيف البارع، صحيحًا إلى ما قبل انتخاب شي جين بينغ. أما وقد انجرف حماس نخبة الحزب الشيوعي الصيني الحاكم، نحو تمكين شي جين بينغ من كل مصادر الحكم والسلطة في البلاد، ورفعه إلى مصاف من يوصفون في أمريكا بأنهم ممن يُمنع المساس بهم
“The Untouchables”، فقد اختلف الأمر تمامًا.
ففي يوم الأحد 11 آذار/مارس 2022، أقر أعضاء “الجمعية الوطنية الشعبية” الصينية (البرلمان)، في جلسة مغلقة، وبأغلبية ساحقة (2958 عضوًا من إجمالي عدد الأعضاء البالغ نحو ثلاثة آلاف عضوًا، حيث عارضه عضوان وامتنع عن التصويت على القرار ثلاثة أعضاء فقط)، قانونًا يتيح للرئيس شي جين بينغ الاستمرار في رئاسة البلاد مدى الحياة، أي استثنائه من مدة الحكم التي حددها الدستور الصيني بولايتين رئاسيتين من 5 سنوات لكل منها. حيث تم إلغاء هذه المادة من الدستور في نفس الجلسة. كما شمل التعديل الدستوري إدراج “فكر شي جين بينغ” في المادة الأولى من الدستور، وانتخاب حليفه الرئيسي وانغ كيشان “Wang Qishan”، الذي عُرف بكشفه قضايا فساد كبرى، نائبًا لرئيس البلاد.
ومن سخريات القدر المثيرة، أن دينغ شياوبينغ، مهندس التحولايات الاقتصادية الكبرى في الصين المعاصرة، هو الذي كان وراء التعديل الدستوري في عام 1982، الذي قضى بتحديد عدد الولايات الرئاسية باثنتين فقط مدة كل منهما 5 سنوات، وذلك لتجنب أي عودة لحكم الفرد الذي طبع عهد الزعيم ماو تسي تونغ (1949-1976).
يصعُب بالتأكيد التشكيك في نقاء سريرة واستقامة ونزاهة الرجل، نقصد الرئيس الصيني شين جين بينغ. فمَن يقرأ سيرته الذاتية، سيجد نفسه أمام مناضل صلب عركته الحياة. كان والده شي هونغ شون
(Xi Zhongxun, 1913-2002)، من قبله، من الرعيل الأول المؤسس للحزب الشيوعي الصيني ومحاربًا في صفوف الثورة منذ صباه، ومؤسسًا لقواعد حرب العصابات التي قادها الحزب في شمال غرب الصين في ثلاثينيات القرن الماضي. وخلال الحرب الصينية اليابانية الثانية (1937-1945)، بقي شي في يانان لإدارة الشؤون المدنية والعسكرية وتعزيز الإنتاج الاقتصادي وتنفيذ سياسات الحزب. وفي المؤتمر الوطني السابع للحزب الشيوعي الصيني في أغسطس 1945، تم تعيينه عضوًا مناوبًا في اللجنة المركزية ونائبًا لمدير قسم التنظيم في الحزب. كما انخرط عشية انتهاء الحرب العالمية الثانية، في القتال في صفوف جيش الشعب الصيني الذي ألحق الهزيمة بقوات القوميين في فوتيشان، وساعد في اختراق اللواء 359 لوانغ تشن من سهول الصين الشمالية؛ قبل أن يتفرغ في ثمانينيات القرن الماضي، لقيادة عملية التحول الاقتصادي في جنوب الصين، حيث عُرف عنه تميزه في قيادة عملية التطوير والتنمية الشاملة في البلاد.
تاريخ نضالي حافل بالشجاعة والتضحيات. ومع ذلك لم يشفع له تاريخه لدى أحد ديماغوجيي الحزب الشيوعي الصيني، كانغ شنغ (Kang Sheng, 1889-1975)، مسؤول جهاز الأمن الداخلي والاستخبارات في الحزب خلال أوائل الأربعينيات من القرن الماضي وإبان ذروة الثورة الثقافية أواخر ستينيات وأوائل سبعينيات القرن الماضي، حيث تعرض شي هونغ شون (والد الرئيس الصيني الحالي)، بسبب تقارير كانغ شنغ ووشاياته، للاضطهاد والسجن الذي قضى فترات طويلة فيه. فذهب ضحية، كغيره من آلاف كوادر الحزب، لعمليات التطهير التي نفذها الحزب الشيوعي الصيني على فترات متباعدة، أقساها كانت إبان ما عُرفت بالثورة الثقافية التي قادها الزعيم ماو تسي تونغ (Mao Zedong, 1893-1976)؛ قبل أن يستعيد شي هونغ شون حريته في مايو 1975 ويتم تعيينه في أحد مصانع مدينة لويانغ “Luoyang i” الواقعة إلى الغرب من مقاطعة هينان “Henan province” بوسط الصين.
نزاهة واستقامة والده وتفانيه في أداء كافة المهام الحزبية والوطنية التي أوكلت اليه، لا غبار عليها. وقد اختبرت بما فيه الكفاية في المناصب التي تقلدها. إنما كان يجب أن يتقلد منصبًا رفيعًا في قيادة البلاد للحكم حينها على مدى صمود حصانته المبدئية ضد كل إغراءات السلطة. الابن أيضا اختُبر في المواقع القيادية التي أسندت اليه، وهو ما أسهم في تزكيته لتقلد أعلى منصب في الدولة، وهو منصب الرئاسة.
وكما يقال، السلطة المطلقة مفسدة مطلقة. والقول ينسبه البعض إلى عالم الاجتماع الأندلسي ابن رشد (1126-1198)، والبعض الآخر إلى المؤرخ والكاتب الإنجليزي السير جو إميريتش دالبرغ أكتون (1834-1902). إنما بعيدًا عن مصدره، فإن قائله سواء كان في القرن الثاني عشر الميلادي، ابن رشد في هذه الحالة، أو في القرن التاسع عشر، أكتون في هذه الحالة، يحيل إلى منتهى تفاعلات هذه الثنائية: السلطة المطلقة والفساد المطلق. ويتمثل هذا المنتهى المحتم في تحول الدول إلى دول فاشلة “Failed states”، متجسدة في تراخي قبضتها على كافة مناحي وسيرورة الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فيها، واعتمادها على القوة لإظهار هيبتها المثقوبة في أكثر من منحى من مناحي حياتها اليومية، وفشل حكوماتها في اتخاذ قرارات ذات أثر فاعل ومنتِج، وتراجع قدرتها على النهوض بمهامها الأساسية في تأمين احتياجات السكان الأساسية (المأوى والعمل والطبابة والتعليم)، وتجاسر وتغول محفزات الفساد في دوائرها.
بهذا المعنى، تكون هواجس ومخاوف الصينيين من عودة ما أطلق عليه السوفييت يومًا مصطلح
“Культ личности” (Personality cult)، أي عبادة الشخصية، التي كانوا يقرنونها بزعيمهم الأسبق ماو تسي تونغ، مبررة. وفي حين اقترن هذا المصطلح باسم الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين (Joseph Stalin)، لتوصيف حالة الإعجاب العام المفرط أو التفاني لشخص مشهور، وخاصة قائد سياسي أو قائد روحي، كما هو حال بابا الفاتيكان على سبيل المثال، فإن هذه الصفة التي يحملها هذا المصطلح، لم تقتصر، تاريخيا، على زعيم بعينه، سواءً كان شخصية قيادية حزبية أو رئاسية أو حتى إدارية. وفي حالة الرئيس الصيني شي جين بينغ، فإنه مع الأخذ في الاعتبار، أولًا استثناءات القواعد؛ وثانيًا استقامة ونزاهة الرجل، على ما هو ظاهر على الأقل؛ وثالثًا نظام القيادة الجماعية الذي تعتمده النخبة السياسية الحاكمة في الصين – ليس من الموضوعي بمكان استبعاد شياطين غوايات النفس وأهوائها في ضوء مغريات ومشهيات السلطات الواسعة والمطلقة الممنوحة له، وفي ضوء مراكز ومواقع القوى وديناصورات المال والأعمال التي فرّختها الرأسمالية الصينية داخل البني التحتية (الاقتصاد تحديدًا) للنظام الاقتصادي والاجتماعي الاشتراكي الصيني.
نبذة عن الكاتب:
- الدكتور محمد الصياد خبير بحريني في العلاقات الاقتصادية الدولية. عمل سابقًا مستشارًا عن ملف المفاوضات المتعددة الأطراف الجارية في إطار منظمة التجارة العالمية ومفاوضات تغير المناخ المتعددة الأطراف. صدرت له حديثًا ترجمة لكتاب الاقتصادي الأمريكي جوزيف ئي ستيغليتز المعنون “السقوط المدوي – الأسواق الحرة وغرق الاقتصاد العالمي“.