العرب والعالمموضوع مميز

هل تجارب الحد من الفقر العشوائية أخلاقية؟

هل تجارب الحد من الفقر العشوائية أخلاقية؟

 

بيتر سنجر ؛ آرثر بيكر ؛ يوهانسن هاوشوفر

برينستون ــ في الشهر الماضي، مُنِحَت جائزة نوبل التذكارية في علوم الاقتصاد لثلاثة رواد في استخدام التجارب العشوائية المضبوطة لمحاربة الفقر في الدول ذات الدخل المنخفض: أبهيجيت بانيرجي، وإستير دوفلو، ومايكل كريمر. في التجارب العشوائية المضبوطة، يختار الباحثون عشوائيا مجموعة من الأشخاص لتلقي تدخل معين، ومجموعة مرجعية ضابطة من أشخاص لا يتلقون ذلك التدخل، ثم يقارنون النتائج. يستخدم الباحثون الطبيون هذه الطريقة لاختبار عقاقير أو أساليب جراحية جديدة، ويستخدمها الباحثون في مجال مكافحة الفقر إلى جانب طرق أخرى لاكتشاف أي السياسات أو التدخلات أكثر فعالية. وبفضل عمل بانيرجي ودوفلو وكريمر، وغيرهم، أصبحت التجارب العشوائية المضبوطة أداة قوية في الكفاح ضد الفقر.

 

 

لكن استخدام التجارب العشوائية المضبوطة يثير تساؤلات أخلاقية، لأنها تستلزم اختيار من يتلقون عقارا جديدا أو برنامج جديد للمساعدات عشوائيا، ولا يتلقى أولئك في المجموعة المرجعية الضابطة غالبا أي تدخل أو ربما يتلقون تدخلا أقل شأنا. قد يعترض المرء على هذا من حيث المبدأ، تمشيا مع زعم كانط بأنه من الخطأ دائما استخدام البشر كوسيلة لتحقيق غاية؛ وقد احتج المنتقدون بأن “التجارب العشوائية المضبوطة تضحي برفاهة المشاركين في الدراسة من أجل التعلم”.

 

غير أن رفض كل التجارب العشوائية المضبوطة على هذا الأساس يعني أيضا استبعاد التجارب السريرية التي يعتمد عليها الطب الحديث لتطوير علاجات جديدة. في التجارب العشوائية المضبوطة، يجري إخبار المشاركين في المجموعة الضابطة والمجموعة التي تتلقى العلاج حول ماهية الدراسة، وهم يشاركون طواعية، ويمكنهم أن يتركوا الدراسة في أي وقت. ومنع الناس من اختيار المشاركة في مثل هذه التجارب سيكون تصرفا مفرطا في الأبوية، وانتهاكا لحريتهم الشخصية.

 

تزعم نسخة أقل تطرفا من الانتقاد أنه في حين لا تُدار التجارب العشوائية المضبوطة الطبية إلا إذا كانت هناك شكوك حقيقية حول جدارة العلاج، فإن العديد من التجارب العشوائية المضبوطة في مجال التنمية تختبر التدخلات، مثل التحويلات النقدية، التي هي أفضل بشكل واضح من لا شيء. في هذه الحالة، ربما ينبغي للمرء أن يقدم العلاج فحسب.

 

يهمل هذا الانتقاد اعتبارين. فأولا، ليس من الواضح دائما ما هو الأفضل، حتى في ما يتصل بأمثلة تبدو صارخة كهذا المثال. فقبل أن تدلل التجارب العشوائية المضبوطة على العكس، كان الخبراء يخشون، على سبيل المثال، أن تؤدي التحويلات النقدية إلى الصراع والإدمان على الكحول.

 

ثانيا، في العديد من سياقات التنمية، لا توجد موارد كافية لمساعدة الجميع، مما ينشئ مجموعة ضابطة طبيعية. وفي ذات السياق، في عالم يتسم بشح الموارد، ليس الأمر المهم ما إذا كان التدخل أفضل من لا شيء فحسب، بل يريد المانحون وصناع السياسات أيضا أن يعرفوا إلى أي حد أفضل، وبأي ثمن. وعلى هذا فإن التجارب العشوائية المضبوطة في مجال التنمية تستخدم مفهوما أوسع لعدم اليقين يشمل حجم وتكاليف التأثيرات المترتبة على تدخل بعينه. من غير الأخلاقي أن نقدم علاجا “ناجحا” إذا كان أقل فعالية كثيرا من حيث التكلفة مقارنة ببديل قابل للتطبيق فيستفيد منه بالتالي عدد أقل من الناس.

 

تتلخص نسخة ثالثة من الاعتراض الأخلاقي في أن المشاركين ربما يتضررون فعليا من التجارب العشوائية المضبوطة. على سبيل المثال، ربما تتسبب التحويلات النقدية في تضخم الأسعار فتجعل غير المتلقين أكثر فقرا، أو تدفع غير المتلقين إلى حالة من الحسد والتعاسة. وهذه النتائج ربما تؤثر حتى على أشخاص لم يوافقوا قَط على أن يكونوا جزءا من أي دراسة.

 

ربما يكون هذا أكثر الانتقادات جدية، لكنه أيضا لا يجعل التجارب العشوائية المضبوطة غير أخلاقية في عموم الأمر. إذ يُعَد من المقبول عموما تعريض المشاركين في الأبحاث لبعض مخاطر التعرض للأذى. وتوازن مجالس المراجعة الأخلاقية المخاطر التي تصاحب الدراسات في مقابل فوائدها المحتملة. والبحوث الطبية مماثلة في هذا الصدد: ذلك أن “مبدأ عدم الإضرار” الذي يلتزم به الأطباء في الممارسة السريرية يُستَعاض عنه بمتطلب أضعف يتمثل في “تقليص المخاطر وتعظيم الفوائد” في الدراسات البحثية. ويجري إخبار المشاركين المحتملين عن المخاطر والفوائد حتى يتسنى لهم اتخاذ قرار مستنير عن اطلاع حول الاستمرار في المشاركة أو الامتناع.

 

مؤخرا، أشار (كما فعل آخرون) خبير اقتصادي آخر حائز على جائزة نوبل، وهو أنجوس ديتون، إلى أن بعض التجارب العشوائية المضبوطة في مجال مكافحة الفقر تضم أشخاصا لا يعرفون أنهم جزء من تجربة لكنهم قد يتأثرون رغم ذلك. يثير هذا مخاوف أخلاقية إضافية. في الرد على هذا، ينبغي لنا أن ندرك أن هذه التجارب العشوائية المضبوطة تختبر غالبا برامج يجري تنفيذها بالفعل من قِبَل الحكومات، والمنظمات غير الحكومية، والشركات. من المهم أن نفهم ما إذا كانت هذه البرامج تؤثر على غير المستفيدين بشكل خطير، وكيف. على سبيل المثال، إذا وجدت تجربة عشوائية مضبوطة أن تدخلا ما أضر بشكل خطير بغير المستفيدين، فإن هذا من الممكن أن يمنعها من التوسع، مما يقلل بالتالي من الضرر الكلي الواقع إلى حد كبير.

 

ثانيا، حتى التجارب العشوائية المضبوطة التي تلحق بعض الضرر بغير المشاركين ولا تختبر بشكل مباشر برامج ربما يجري تنفيذها من قِبَل صانعي السياسات قد تصبح مقبولة إذا كانت الفوائد التي تولدها تفوق التكاليف بشكل واضح. يسأل الفيلسوف ديريك بارفيت ما إذا كان لشخص محاصر في مبنى منهار أن يكسر إصبع قدم شخص غريب غائب عن الوعي لإنقاذ حياة طفل. يتفق أغلب الناس على أن “استخدام” الشخص الغريب على هذا النحو مقبول أخلاقيا. على نحو مماثل، حددت التجارب العشوائية المضبوطة في بعض الأحيان تدخلات أكثر فعالية بعشرات المرات وربما حتى بآلاف المرات من غيرها. وتعمل هذه النتائج على تمكين صانعي السياسات من إنقاذ أو تحسين حياة العديد من الناس من خلال اختيار التدخلات الأكثر فعالية. وعلى هذا فإن استخدام التجارب العشوائية المضبوطة مسموح به أخلاقيا، بل وربما نقول إنه مطلوب أخلاقيا.

 

مع ذلك، تتسم أخلاقيات التجارب العشوائية المضبوطة في الدول النامية بالحساسية، وقد زعم بعض المنتقدين أنه في حين قد تكون التجارب العشوائية المضبوطة أخلاقية من الناحية النظرية، فإنها ليست كذلك في الممارسة العملية. فهناك تباين كبير في السلطة والامتياز عندما يقوم باحثون، قادمون من دول غنية عادة، بإجراء تجارب مع الفقراء وعليهم. يحتاج الباحثون عادة إلى الموافقة من قِبَل مجالس مراجعة أخلاقية مستقلة، سواء في بلدهم أو حيثما تُجرى الدراسة.

 

هذا ضمان بالغ الأهمية، لأنه يضمن عدم فرض معايير أخلاقية من الخارج. مؤخرا، اقترح الخبير الاقتصادي في البنك الدولي أويبولا أوكونجبي أنه إذا لم تتوفر مثل هذه الرقابة المحلية، فيجب على الباحثين أن يعملوا على إيجاد طرق أخرى لضبط أخلاقيات دراساتهم محليا. كما اقترح الباحث أنكور سارين من المعهد الهندي للإدارة أن مجالس المراجعة الأخلاقية تنشر تفسيرات قراراتها علنا. ونحن نعتقد أن هذين الاقتراحين جيدان.

 

يساهم الحائزون الجدد على جائزة نوبل أنفسهم في إيجاد الحل عن طريق إتاحة الفرص التعليمية للجيل القادم من الباحثين في البلدان النامية. إذ يقدم برنامج جديد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، والذي أنشئ بمساعدة بانيرجي ودوفلو، درجات ماجستير ممولة بالكامل في الاقتصاد للمواطنين من البلدان النامية الذين أظهروا إمكاناتهم في دورة عبر الإنترنت ــ ولا يلزم الالتحاق بهذا البرنامج الحصول على شهادة المدرسة الثانوية.

——————————————————–

ترجمة: إبراهيم محمد علي       

 

——————————————————

بيتر سنجر أستاذ أخلاق الطب الحيوي في جامعة برينستون. وفي الثالث من ديسمبر/كانون الأول تصدر نسخة محدثة بمناسبة الذكرى السنوية العاشرة من كتابه “الحياة التي يمكنك إنقاذها”، وهي متاحة مجانا على موقع www.thelifeyoucansave.org. آرثر بيكر باحث مشارك في مركز التنمية العالمية. جونسون هاوشوفر أستاذ علم النفس والشؤون العامة في جامعة برينستون.

 

 


حقوق النشر باللغة العربية محفوظة لـ جريدة برواز الالكترونية 

 

projectsyndicate@

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى